في شارع ضيق مليء بالمطبات، تحتشد آلاف المركبات وتتصادم يومياً عندما تحاول ربط حبل الوصال بين بغداد وأربيل، تستريح في بلدة «طوز خرماتو» بحثاً عن وجبة غذاء سريعة قبل استئناف الرحلة في الممر الذي يتم وصفه بدلالات مختلفة بأنه «طريق الموت»، تتحدث «طوز خرماتو» بلغة كركوك، وهي مزيج من التركمانية والكردية والعربية، لكن لهجة الحرمان والفقر والخوف من المغامرات السياسية مشتركة ومفهومة في العراق ولا تحتاج «ترجماناً». «طوز خرماتو» البلدة التي حدثت في شارعها الوحيد الرابط بين بغداد وأربيل أخيراً، مواجهات خطيرة بين قوات حكومية عراقية وأخرى كردية وكان ضحيتها رجل أمن تركمانياً و11 جريحاً، ليست مدينة بالمعنى المعروف للمدن، فأهم منشآتها مطاعم متفرقة للمسافرين، لوقوعها في منتصف المسافة بين الجزء العربي من العراق والجزء الكردي. و «دوز خرماتو» أو «طوز خرماتو» وفق اختلاف لفظها تعني بالتركية «الملح والتمر»، تضم تنوعاً تركمانياً وكردياً وعربياً موزعاً بدوره بين السنّة والشيعة، وكانت على امتداد تاريخ العراق الحديث مكاناً تحط فيه قوافل المسافرين وشاحنات البضائع رحالها فيه. وعلى رغم أن البلدة التي تفصلها عن قضاء العظيم العربي سلسلة مرتفعات حمرين الشهيرة، تقع اليوم ضمن الحدود الإدارية لمحافظة صلاح الدين ومركزها تكريت منذ عام 1976 بعد أن كانت تنتمي إلى كركوك، فإن أيَّ عراقي لا يمكنه إغفال اقتراب بيئتها الثقافية وتنوعها من البيئة الكركوكية الخاصة، تتداخل حدودها بين حدود ديالى وكركوك. حشد عسكري يعرف المسافر بين بغداد وأربيل منذ عام 2003 أن سلسلةَ تلال حمرين التي تمثل حدوداً طبيعية لمحافظة ديالى هي نقطة بدء النفوذ الكردي ونهاية نفوذ القوات الأمنية العراقية، فتدريجاً ومع المرور بقرى «آمرلي» و«بسطاملي» و«سليمان بيك» و«داقوق» تتغير لغة نقاط التفتيش، وتتبدل علامات الوجوه وملابس ولهجات الأهالي، لكن ذلك لم ينقذ هذه المنطقة من الاضطراب الأمني، فكانت في الحرب الطائفية ضحية تنوعها المذهبي والعرقي وشهدت تصفيات وتفجيرات وعمليات قتل على الهوية. ومع إعلان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أخيراً تشكيل قيادة عسكرية باسم «عمليات دجلة» لتضم في مسؤوليتها الأمن في محافظتي ديالى وكركوك، كانت «طوز خرماتو» عائقاً طبيعياً أمام امتداد نفوذ هذه القوات الجديدة من ديالى إلى كركوك فكان القرار بضم محافظة «صلاح الدين» برمتها إلى القيادة الموحدة، لوجيستياً بالدرجة الأولى. المشكلة الأساسية لم تكن في تشكيل قوات عراقية لإدارة ملف أمنيّ لمحافظات عدة ومثل تلك القوات استحدثت في وقت مبكر في منطقة الفرات الأوسط التي تضم محافظات النجف وكربلاء وبابل، وفي جنوب العراق حيث البصرة وذي قار وميسان، لكن حساسية الوضع في المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل وخصوصاً كركوك فرض كل هذا التصعيد من الجانبين. لا يخطئ المتنقل بين أربيل وبغداد الزخم العسكري الواضح للعيان من قوات البيشمركة الكردية التي تتمركز في مناطق شمال كركوك وشرقها والقوات الحكومية التي تتمركز في جنوبها، مثلما يشير نوع التسلح الذي يضم دبابات ومدفعية وصواريخ مضادة للطائرات، إلى تعاظم أخطار انفجار النزاع في هذه المنطقة. ويبدو من خلال التصريحات السياسية على الجانبين أنَّ الجيشين المتأهبين للاصطدام يتمترسان أيضاً خلف الدستور العراقي، الذي يمنح السلطة المركزية حق نشر شرطة فيديرالية وليس قوات عسكرية، لكنه يمنح في الوقت نفسه المناطق المتنازع عليها وضعاً خاصاً إلى حين تسوية الخلافات حولها. طرق الموت في هذه الأزمة تبدو «طوز خرماتو» أشبه بقرية ضربها زلزال من قرون سابقة، فالطرق منهارة وبدائية، والمنازل القديمة ترص بعضها بتثاقل، فيما ينتشر غبارُ الشاحنات المارة على شارع أحاديٍّ فشلت الحكومات لعقود في تحويله إلى طريق بممرين للذهاب والإياب. والمصادفة أن الممر الرابط بين أربيل وبغداد (380 كيلومتراً) يطلق عليه «طريق الموت» ليس لأنه شهد النسبة الأكبر من عمليات الاختطاف والقتل خلال الحرب الأهلية فقط، بل لأن حوادث السير اليومية تحصد بنشاط أرواح سالكيه، فيما حصل طريق آخر يربط «الطوز» بتكريت على اللقب نفسه وللأسباب نفسها بينما اسمه الرسمي «طريق العز». القرى المتناثرة في محيط «طوز خرماتو» تجمعها مع كركوك عوامل كثيرة كاللغة والتاريخ والثقافة، لكنها تتفق معها اليوم على «الخوف»، فأيّ مغامرة بين الجيشين المتربصين على الحدود تعني بالضرورة تحول المنطقة برمتها إلى ساحة معركة أكبر من قدرتها على الاحتمال. أحاديث السكان تكشف معاني جديدة لمصطلح «الكارثة» الذي يتم تداوله بإفراط في كركوك و «طوز خرماتو»، فالصدام لا يعني المواجهة العسكرية فقط، فهنا لا يمكن ضبط التداعيات الاجتماعية لمثل هذا الاحتمال، والتداخل السكاني قد يحوّل كلّ شارعٍ إلى خط تماس. لكن حديثاً صاخباً ومحتدماً بين المسافرين الذين جمعهم مطعم في «طوز» بانتظار إعادة فتح الطريق الذي أغلقته «عمليات دجلة» لخمس ساعات يكشف عن رؤية شعبية مغايرة لتلك التي يتم التطاحن حولها في الأروقة السياسية. حسين المتزوج حديثاً كان عائداً للتو مع زوجته إلى بغداد بعد قضاء أسبوع «عسل» في السليمانية، قال: «كنت أمنّي النفس بأسبوع آخر (...) للأمن في كردستان مذاق لم نعهده في بغداد، والأهالي هناك يعيشون خارج فرضيات الحرب، فما الذي يحصل؟». علق أربعيني كردي آتٍ من أربيل «يطبخونها في ما بينهم، نحن وقود فقط»، فأجاب عامل المطعم وهو أزيدي «انتقل منذ سنوات من مكان إلى مكان آخر بحثاً عن العمل، في الموصل، في قريتي صارت الأزيدية تهمة، واليوم قد تحدث الحرب هنا وأعود عاطلاً». صوت من الخلف، قال بغضب: «وماذا يريد الأكراد، لماذا يمنعون الجيش من القيام بعمله» فرد عليه الكردي: «ومتى قام جيشك بعمله، إلا إذا كان عمله الوحيد هو قتلنا؟» وأردف: «المالكي يريد التغطية على فساد حكومته بفتح جبهة مع كردستان» فأجاب الصوت العربي مدافعاً: «أنتم تتناسون الفساد في كردستان، النفط يباع بربع سعره، والأحزاب تمتلك كل شيء». الحوار بين الرجلين ارتفعت حدته تدريجاً وبدا أقرب إلى الصراخ واقترب من الشتائم. لكنه صمت فجأة عندما تدخلت مجموعة من أهالي «طوز خرماتو»، قال أحدهم: «اصمتوا فأنتم لا تعرفون شيئاً، تتحدثون عن الحرب لأنكم ترونها على الشاشات، نحن هنا نعايش الحرب كل يوم، ونعرف أننا سندفع ثمنها، تتحدثون عن النفط ولا تسألون عن البشر، أنتم تماماً كالسياسيين الذين يقودونكم». ارتفع الصوت أكثر ليسمع كل الجالسين: «هل سألتم لماذا يفترش أطفالنا الشارع لبيع عبوات البنزين لسياراتكم الفارهة؟... لماذا يعمل شيوخنا في معامل الإسمنت والطابوق السامة ويدفعون حياتهم ثمناً لها... هل ستغير عنترياتكم شيئاً من واقعنا... أنتم بائسون؟». ساد الصمت وانسحب المجادلون مع وصول الأنباء عن افتتاح الشارع. كان أطفال منهكون يتحلقون حول السيارات لمسح زجاجها بحثاً عن مكافأة، كانت محال لتصليح عجلات السيارات تتوسل أن «ينتحر» احد إطارات المسافرين، وكان شرطيُّ مرور خمسيني يراقب الطريق بعينين شاردتين بانتظار نهاية ورديته. ابتعدت المنازل المتعبة وتفرقت في الغبار، وامتدت الأرض المجدبة بملل إلى الجبال الصخرية البعيدة... لا شيء في الأفق سوى العجلات العسكرية... الكثير منها.