لم يعد وجه الجندي العراقي الشاب الذي يمسك سلاحه في توتر ويجلس في عربته من نوع «هامر» وسط الصحراء، يحمل ملامح معينة. فالشمس الحارقة والمخاوف من تكرار الهجمات على الطريق المرعب الذي ابتلع عشرات من أقرانه كست ملامحه بمسحة داكنة وحزينة. عدنان مراد الجندي الشاب ذو العشرين عاماً يؤكد أنه يقوم بواجب لم يكن الأميركيون قادرين على القيام به في هذه المنطقة الخطرة، وهو لا يرغب في رؤية مرحلة الحرب الطائفية بين بلدات الخالص والعظيم وحمرين وطوز خرماتو التي تنتشر على «طريق الموت» الاجباري الواصل بين كركوك وبغداد. ومنذ الخروج عبر الطريق البري من بغداد باتجاه كركوك شمالاً، تنبري ملامح الهويات الطائفية لبلدات تمتد على الطريق، فترتفع في منطقة «جديدة الشط» يافطات كبيرة كُتب عليها «منظمة بدر ترحب بكم» وأخرى «تودّعكم» كدلالة على سيطرة «المجلس الاسلامي الاعلى» على هذه المنطقة. ومن ثم، وعبر طريق صحراوي طويل، تنتشر قرى معروفة بأنها سنّية لكن لا يمكن تلمّس اشارات محددة عن هويتها. الدخول الى منطقة الخالص التي كثيراً ما كانت تنصب فيها نقاط التفتيش الوهمية يعني الوجود داخل منطقة نفوذ «جيش المهدي». فالجداريات الكبيرة للصدر الأب والابن والمخطوطات التي تشيد ب «جيش المهدي» تبدأ من لحظة دخول الطريق الى البلدة وحتى خروجه منها، إذ تعود الاراضي المجدبة، فيما تنتشر على جانبي الطريق عشرات السيارات والشاحنات المحروقة وآثار انفجار العبوات. يقول الرائد معتز العزاوي من قوات شرطة ديالى إن المنطقة المحصورة بين قضائي الخالص والعظيم وجبال حمرين وتمتد لحوالي مئة كيلومتر كانت حتى شهور قريبة منطقة قتل لكن خطة «بشائر الخير» في المنطقة ركزت على تأمين الطريق عبر نشر الوحدات العسكرية على جانبيه بواقع عربة تضم خمسة عسكريين على الأقل كل كيلومتر تقاطعها مقرات وحدات عسكرية تابعة للجيش والشرطة. يعلق السائق كمال كركوكي: «في هذا المكان، كانت تقف نقطة تفتيش للشرطة العراقية تدقق هويات المسافرين ثم تبلغ الميليشيات بوجود «مختلفين طائفياً» أو «أثرياء» في هذه السيارة أو تلك ليسهل اقتناصهم بعد مغادرتهم نقطة التفتيش». الانتشار العسكري لافت في الطريق. ويقول السائق إن وجود الجيش والشرطة بدءاً من مدخل بغداد حتى مدخل كركوك وعلى مسافة تمتد الى حوالي 300 كيلومتر يعد جهداً استثنائياً لقوى الأمن العراقية لم يكن في مقدور الدوريات الأميركية المتحركة تحقيقه «قبل عام فقط كان المرور في هذا الطريق أشبه بالانتحار. فنقاط التفتيش الوهمية تقتل السنّة في الخالص وتقتل الشيعة في العظيم وتقتنص الجميع في حمرين. والطريق تتحول الى ما يشبه مقبرة دائمة للمركبات العسكرية والمدنية العراقية والمدرعات الأميركية التي يتم رفعها باستمرار». الدخول الى بلدة «العظيم» يشير الى هويتها السنّية أيضاً. فهناك شعارات ضد الأميركيين، وخطب دينية مسجلة تبث من المحال التجارية. «العظيم» كانت تقوم بدور توازن الرعب مع «الخالص» جنوباً. والعداء بين البلدتين وصل الى حدود القطيعة التي يقول الأهالي إنها لم تعالج حتى اليوم. فالوجهاء والمسؤولون الذين فقد معظمهم أبناء أو أقارب خلال مرحلة العنف الطائفي لا يبدو أنهم تجاوزوا تلك المرحلة، وإن اتفقوا ضمناً على وقف حملات القتل المتبادلة. عناصر «الصحوة» تنتشر هي الأخرى على الطريق وبين الوحدات العسكرية في مواقع على شكل غرف بُنيت من الطين في الصحراء بواقع كيلومتر لكل غرفة يجلس فيها عنصر أو اثنان. يقول الرائد العزاوي إنهم يعرفون أن أؤلئك يمكن أن ينقلبوا على الجيش في أي لحظة ويحملوا السلاح ضده، «لكن هناك تفاهماً بيننا في هذا الموضوع (...) قائد الوحدة قال لقائد الصحوة قبل أيام إن أي عملية سلب على الطريق سيتهم فيها عناصر الصحوة». في المقابل، يقول بكر المشهداني الذي يجلس في مقر الصحوة في قرية صغيرة قرب العظيم إن «الشكوك لم تغادر عناصر الجيش والشرطة تجاهنا، والأميركيون وحدهم من كان يتعاون معنا في شكل جيد». لا يغيب الأميركيون عن المشهد في هذا الطريق. وأكد ضابط بعدما توقف رتل يقوده في المنطقة بين العظيم والخالص بسبب وقوع عطل في إحدى المركبات أن «هذا الطريق الخطر لن يشمل بخطة الانسحاب من المدن فهو خارج المدن في الأساس، ونحن مستمرون في تسيير دوريات فيه، ولم نبلغ بوقف تلك الدوريات». الضابط الذي رفض ذكر اسمه كان اعتذر عن محاولة أحد جنوده اعتقال مراسل «الحياة» لأنه اعترض على ابتسامه في وجه جندي كان يشهر السلاح بعصبية على السيارات المتوقفة قسراً. وقال الضابط بواقعية إن «وجودك داخل سيارة مكيفة في هذا القيظ الصحراوي ربما استفز الجندي المتوقف تحت أشعة الشمس منذ ساعتين!». أما الجندي العراقي عدنان مراد الذي تظهر على وجهه آثار حروق الشمس، فضحك عندما سمع برواية الاعتقال بسبب «الابتسامة»، وقال إن «كل شيء وارد من الأميركيين. أما نحن فنضطر يومياً إلى الجلوس تحت أشعة الشمس لساعات ولا نتذمّر». منظمة «مجاهدين خلق» الايرانية موجودة بدورها في تلك المنطقة أيضاً وتربطها علاقات وثيقة ببلدة العظيم على يمينها وعلاقات سيئة ببلدة الخالص على اليسار. الانطلاق شمالاً يوصل المسافر الى بلدة «طوز خرماتو» ذات الغالبية التركمانية المختلطة طائفياً، وهي بلدة على عكس القراءات الجغرافية الواقعية تتبع ادارياً محافظة صلاح الدين غرباً. وكان التركمان طالبوا بتحويلها الى محافظة مستقلة على رغم انها أقرب الى البلدة الريفية من المدينة. الوصول الى بلدة «تازة» ذات الغالبية التركمانية الشيعية التي حصلت فيها مجزرة يوم السبت الماضي يتطلب المرور ببلدات وقرى تركمانية سنّية وأخرى كردية سنّية أيضاً. ويبدو التداخل في الأولويات طاغياً هنا بين ما هو طائفي وما هو قومي، ما يسهل وصول ارهابيين بغطاء قومي أو طائفي لتنفيذ هجمات كبيرة على حد قول عاصم مرتضى أحد أهالي «تازة» التي بدت وكأن زلزالاً ضرب منازلها المتهالكة وأحالها الى خراب. مستوى التدمير في «تازة» التي خسرت 73 قتيلاً و250 جريحاً في انفجار شاحنة مفخخة السبت الماضي كان استدعى من الأهالي طلب تحويلها الى منطقة منكوبة. وعلى رغم جهود الانقاذ، إلا أن عشرات العائلات وجدت نفسها في لحظة بلا مأوى وتسكن اليوم لدى أقارب أو جيران من المنطقة ذاتها. أصابع الاتهام توجهها الشرطة في «طوز خرماتو» و «تازة» الى منطقة «جبال حمرين» جنوباً حيث يعتقد بأن طبيعتها الوعرة حوّلتها الى وكر استراتيجي لخلايا «القاعدة» ومجموعات مسلحة أخرى. وحتى السائق الكردي الذي بدا مطمئناً على طول الطريق لا يجرؤ على التوقف في حمرين، وقال إن «المنطقة ما زالت ملغومة». «طريق الموت» من بغداد الى كركوك وبالعكس، لم يعد ينطبق عليه هذا الوصف بانتشار عشرات نقاط التفتيش والمدرعات العراقية في صحرائه. لكن الأمن الذي بدا مستتباً يخفي خلفه حساسيات بين بلدات يبدو أنها ما زالت تحتفظ بذاكرة دامية عن أحداث عنف تتجدّد بين الحين والآخر.