فجر بغداد في آخر أيام عام 2010 كئيب كالعادة. الشوارع شبه فارغة. لم يبادر أحد الى تنظيفها أو تعبيدها منذ سنوات. تحولت فجراً الى بقية هياكل. والموت يفيض من ذاكرة المدينة المثقلة بروائح البارود، وآثار القنابل. عبرت السيارة السوداء التي ثبت على متنها نعش مصنوع من خشب الصنوبر، ليل بغداد وشوارعها المريبة بصمت، كأنها تخشى افتضاح سرها. جسد الشاب المسيحي الذي قتل، مع آخرين، في حي الغدير، عندما هاجمت جماعة مسلحة 14 منزلاً لمسيحيين أول من أمس، حملته والدته وشقيقتاه وأحد أقاربه والسائق المتطوع من بغداد الى إقليم كردستان لينال ما يستحق من مراسم الدفن. كأن سراً يبرز علامات رعب على وجوه العائلة المنكوبة التي رفضت البوح باسمها، أو التعليق على الحادث أو السماح بالتصوير: «من يقول إن الإرهابيين لن يقطعوا الطريق علينا في ديالى أو كركوك ليقتصوا ممن بقي ويمثلوا بجسد الشاب»؟ تساءل السائق، وزاد: «أدعو لنا أن نصل الى أربيل بسلام». كانت هجمات يومي الأربعاء والخميس على منازل مسيحيين في أحياء العامرية والغدير والدورة في بغداد خلفت قتيلين وسبعة جرحى، على ما أعلنت الشرطة التي أشارت الى أن الهجمات استهدفت الخميس أيضاً عائلة من طائفة الصابئة المندائيين في حي السيدية. تصعيد الهجمات على الأقليات في العراق اتخذ منحى أكثر خطورة، منذ حادثة احتجاز الرهائن في كنيسة سيدة النجاة، وسط بغداد، على يد مسلحين من «القاعدة» فجروا أنفسهم خلال اقتحام قوات الأمن الكنيسة وخلفوا وراءهم أكثر من 100 قتيل وجريح. وعلى رغم تعهد الحكومة حماية المسيحيين، استمرت الهجمات ضد هذه الأقلية لتسرع وتيرة هجرة غير مسبوقة، شملت المئات من العائلات. وتهدد بإفراغ العراق من مسيحييه خلال بضعة شهور. في الطريق بين بغداد وأربيل، مروراً ببلدات سنية وشيعية وكردية وتركمانية، توقف موكب العزاء عند عشرات الحواجز التي يطلع القيمون عليها على شهادة الوفاة ويستمعون إلى أسباب نقل الجثمان. كان الجنود عند بعض الحواجز يلقون التحية العسكرية في وداع القتيل، فيما كانت الأيدي تلوح بإشارة الوداع، انسجاماً مع تقليد عراقي عميق الجذور يحتم على من يمر بقرب جثمان أن يرفع يده بوضوح لوداعه. لكن الوداع، على ما قال الرائد حسن التميمي المشرف على نقطة تفتيش قرب بلدة الخالص «قد يكون لكل المسيحيين. سمحنا للإرهابيين باقتناصهم منذ 2003. صمتنا حين فرغت ديالى وواسط والانبار وصلاح الدين والبصرة منهم، فصاروا في الموصل وبغداد بعدما كانوا ينتشرون من شمال العراق الى جنوبه. اليوم لن نجدهم حتى في بغداد والموصل. انه الوداع حقاً». غادر النعش حدود الخالص الشيعية واقترب من بلدة العظيم السنية ليشهد مراسم الوداع ذاتها. نظر أحد الجنود الى العائلة المرعوبة داخل السيارة بحسرة وقال: «لم لم تدفنوه في بغداد»؟ فأجابه سائق السيارة:»بغداد لم تعد قادرة على الاحتفاظ بالمسيحيين. لم تعد أمينة على أجسادهم حتى». بغداد تضم عدداً كبيراً من مقابر المسيحيين، والمفارقة، على ما يقول الأب يوسف عبد الله من حي الدورة، إن مسيحيي العراق المهاجرين الموسرين كان بعضهم يوصي بنقله من الولاياتالمتحدة وأوربا ليدفن في مقابر عائلته. قال أحد المسافرين بأسى: «لم أساعد في قتلهم أو تهجيرهم. بل أنا من ضحايا القتل والتهجير على يد المتطرفين. لكن لماذا أشعر بوخز الضمير أمام هذا النعش؟». عندما وصلت السيارة الى حدود بلدة طوز خرماتو التركمانية كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحاً وكانت الشمس ألقت ضوءها على وجوه المسافرين المتعبة. كانت الأم تلقي نظرة نحو المجهول. وابنتاها تغالبان الدمع. لم يعتقدا يوماً أن رحلة الهرب من جحيم الوطن ستكون في حماية نعش أخيهما. بدأت الأرض تتغير. حلت الكلمات الكردية محل العربية والتركمانية خارج كركوك وفي اتجاه اربيل. تنفس ناقلوا النعش الصعداء. لم يمنح رعب الطريق السيدات الثكالى فرصة للحزن: «الآن فقط صار بمقدوركن البكاء».