على بعد أمتار من مقر الديوان الملكي الأردني وسط عمان، وقف ثابت عساف يطلق هتافات وشعارات مرتفعة السقف لم يعتد الأردنيون سماعها من قبل. «لم نعد عبيداً عند أحد»، حرص عساف على القول في تلك الليلة التي أعقبت قرار الحكومة رفع أسعار المحروقات، في بلد يعاني عجزاً مالياً يقارب 21 بليون دولار. الهتافات الكثيرة طاولت مؤسسات سيادية في البلاد، وخلال الوقفة التي رصدتها «الحياة» أمام بوابات الديوان المحاطة بناقلات الجند والمئات من رجال الأمن المقنعين والمدججين بالسلاح وقنابل الغاز، كانت تذكر بحقيقة واحدة، تتمثل في أن وعياً جديداً بدأ يتشكل، وأن جيلاً من الأردنيين الشباب بدا غير آبه بسقوف التعبير التي ميزت قوى وأحزاباً سياسية «تقليدية» على وقع ثورات «الربيع العربي»، وأن الأردن بعد 13 - 11 (يوم تحرير الأسعار) ليس كما كان عليه قبل. فالشاب عساف ذو السحنة البيضاء واللحية الكثّة، كان يصرخ أمام قيادات أمنية بارزة - اكتفت بمراقبة المشهد - بأن «الأردنيين اليوم أمام ثورة حقيقية (...)». وبعدما كان الحراك مقتصراً على بعض النخب العمانية لا سيما المنخرطين في جماعة «الإخوان المسلمين» إضافة إلى بعض الحراكيين في مدن الجنوب والشمال كما الوسط، بدت شوارع المملكة تغص بآلاف الأردنيين في احتجاجات وصفت بأنها الأعنف منذ اندلاع تظاهرات كانون الثاني (يناير) 2011. وأدى قرار رفع أسعار المحروقات إلى بروز خطابات ومصطلحات جديدة من قبيل الدعوات الصريحة إلى «إسقاط النظام»، وهو الشعار الذي ظل معزولاً خلال الأشهر الماضية داخل تلك المدن النائية المحسوبة على الشرق أردنيين. كما تسبب القرار بولوج المواطنين من أصل فلسطيني إلى بوابة الحراك، بعد استنكاف عن المشهد السياسي استمر عاماً ونصف العام. فقبل أن يفرغ رئيس الحكومة عبدالله النسور من إعلان قراره الاقتصادي انتفضت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وشهد مخيم «البقعة» (غرب عمان) أعمال شغب عنيفة بين محتجين وقوات الشرطة، وتكرر المشهد ذاته في مخيمي «الحسين» و«عزمي المفتي» (وسط عمان) و(شمال إربد). وأثناء الاحتجاجات التي سرعان ما توسعت رقعتها وتحولت إلى احتجاجات شبه يومية بعد أن حافظت على زخمها الأسبوعي، تداول المتظاهرون ولأول مرة مصطلحات ومسميات نادرة على وزن «ثورة» و «انتفاضة» و «هبة تشرين» المستوحاة من «هبة نيسان» عام 1989، وهي المفردات التي باركتها جماعة «الإخوان» إلى جانب الجبهة «الوطنية للإصلاح» التي يتصدرها رئيس الحكومة السابق أحمد عبيدات، ومنحتها زخماً سياسياً. لم يتردد «الإخوان» باستغلال أجواء الاحتقان التي قادت لمهاجمة أقسام الشرطة وإغلاق الطرق وإحراق السيارات والمباني الحكومية كما أودت بمتظاهرَين اثنين وجرح العشرات. وفي حين غابت قيادات الصف الأول عن التظاهر ربما «تكتيكياً»، وفق مراقبين لشؤون الجماعة، ردد آلاف الشباب المنخرطين في صفوفها ولأول مرة أيضاً شعار إسقاط النظام. وفي مقابل ذلك، اكتفت الجماعة بردود مقتضبة اعتبرت أن «الهتاف الصادر عن كوادرها لا يمثل الموقف المعلن للإخوان». لكن الرجل الثاني في التنظيم زكي بن أرشيد (المتمرد على سقوف الجماعة التقليدية) سارع إلى إطلاق تصريح لافت استوقف مطبخ القرار الرسمي، جاء فيه أن الأردن أمام سيناريوات ثلاثة: «إما الفساد، أو الإصلاح، أو أن يذهب الأردنيون نحو إسقاط النظام». ولم يكتفِ «الإخوان» بمثل هذه التصريحات غير المسبوقة، إذ سعوا إلى تركيز احتجاجاتهم الليلية عند دوار الداخلية (وسط عمان) الذي يعتبر من أكثر المناطق حساسية في البلاد. لكن هذا المسعى قوبل برفض شديد من جهة السلطات التي حولت الدوار إلى ثكنة عسكرية خلال الأيام الماضية، ومنعت الاقتراب منه ليلاً. وهو ما دفع مصادر رسمية تحدثت إليها «الحياة»، للكشف عن قرار يقضي بمنع الاحتجاجات عند الداخلية، بعد صدور تقارير أمنية تحذر من تحول الدوار الشهير إلى ميدان شبيه بميدان التحرير المصري. كما اعتبرت توصيات أمنية أخرى أن العنف الذي شهدته المملكة أخيراً يشير إلى احتمال حدوث صدامات واضطرابات جديدة على نطاق واسع خلال الأسابيع المقبلة. وعلى وقع هذه التوصيات، استمر «الإخوان» بالذهاب نحو التصعيد، ونجحوا إلى جانب «حراكات» شعبية وعشائرية بحرق آلاف البطاقات الانتخابية العائدة لمحتجين على قرار رفع الأسعار. وبعد أن قام متظاهرون غاضبون بإحراق بطاقاتهم خلال الأيام الماضية في شكل عفوي، قررت هذه «الحراكات» تنفيذ حملات منظمة لإتلاف المزيد من البطاقات. الباحث محمد أبو رمان قال ل «الحياة»، «إن الأردن اليوم لم يعد كما في السابق، ولعلّ المقارنة مع عام 1989 غير دقيقة أيضاً، فالمأزق اليوم أكثر تعقيداً وأوسع انتشاراً، وما حدث خلال أيام قليلة أمر جلل وخطير». إن ما جرى عام 89 من احتجاج ضد الغلاء وأدى إلى تحول ديموقراطي كبير على ما يقول، لم يكن سوى شرارة عابرة، فالمتظاهرون في تلك الحقبة لم يرفعوا شعارات مرتفعة السقف. حديث أبو رمان أكده لقاء سياسي صاخب دعا إليه الوجه العشائري الشهير فايز الفارس في قرية أم رمانة القريبة من العاصمة الأردنية، والتي تقطنها غالبية عشائرية تتحدر من قبيلة (بني صخر) كبرى العشائر الأردنية. اللقاء الذي جرى قبل يومين وحضره المئات من ممثلي العشائر التي طاولتها قرارات الحكومة الاقتصادية، شهد نبرة حادة وأطلق المشاركون «إنذاراً أخيراً» لإعادة ما يقولون إنها «أموال الشعب المنهوبة»، مهددين ب «تدويل الأزمة» التي تمر بها البلاد. ولمثل هذا اللقاء دعا أحمد عبيدات وجهاء وشخصيات عشائرية قبل أيام عدة. عبيدات الآتي من إحدى قرى الشمال النائية، تحدث كثيراً خلال اللقاء عن الهم الداخلي، معتبراً أن بلاده «تعاني انحرافاً في الحكم» وأن من يقوض النظام الأردني «هم الذين يعبثون بقوت المواطن». عبيدات حاول جاهداً تبرئة نحو 300 شاب زج بهم داخل السجون، وفق منظمات حقوقية أردنية، بعد أن رددوا شعارات ساخنة. مثل هذه الشعارت، دفعت أبو رمان للقول: «نعيش بالفعل أزمة سياسية واقتصادية خطيرة وعميقة». وأضاف «حتى لو تجاوزت الدولة الموجة الأولى من الاحتجاجات، فإن مبررات اتساع الاحتجاجات وشروطها ما زالت فاعلة جداً، والظروف السياسية محتقنة في شكل كبير تغذيها البطالة والفقر ومشاعر الحرمان الاجتماعي». وبصوت أقرب إلى الحنق اعتبر أبو رمان الآتي من مدينة السلط المجاورة لعمان والمعروفة تاريخياً بولائها المطلق للنظام، أن «الاحتجاجات الأخيرة تركت ندوباً كبيرة في النظام السياسي وهزت صدقية العملية السياسية في شكل كبير»، وأنه لا يعرف حقيقة إلى أين ستصل الأمور في «ظل أزمة سياسية واقتصادية مركبة». لكن الوزير سميح المعايطة الناطق باسم الحكومة، والذي ظل لسنوات قيادياً بارزاً في صفوف جماعة «الإخوان»، حاول خلال حديثه ل «الحياة»، التقليل من شأن الاحتجاجات التي حصلت أخيراً، معتبراً أن شعارات إسقاط النظام «لا تمثل حالاً سياسية معارضة ولا حالاً شعبية على الإطلاق». المعايطة المراقب الجيد للاحتجاجات المتصاعدة أمام مقر الحكومة بمنطقة الدوار الرابع، أكد مراراً أن «الأردن دولة قوية ستخرج من هذه الأزمة»، قائلاً «مهما اختلفنا على التفاصيل فإن أحداً لا يختلف على وجود النظام».