بين حي عابدين وميدان التحرير 780 متراً فقط لا غير، وشوارع تتطابق في تاريخ عريق وواقع متوتر، وسكان يذوقون الأمرين من حال ملتبس واقتصاد متعثر وسياسة بائسة. الميدانان تجاريان سكنيان تداخلت في كليهما محلات صغيرة يجاهد أصحابها في كسب لقمة العيش، وسكان يستيقظون صباح كل يوم آملين في أن تكون غمة فوضى ما بعد الثورة انقشعت ووعد استقرار ما بعد انتخابات الرئاسة حل. لكنهم حالياً يطلون من نوافذ بيوتهم المغلقة، وأبواب محلاتهم المواربة وهم يترقبون ما سيحل بهم وعليهم وحولهم. وعلى رغم أنباء عن نقل حشد «الإخوان المسلمين» من عابدين القريبة إلى تمثال نهضة مصر القابع أمام حديقة الحيوان وجامعة القاهرة البعيدة لتجنب صدام متوقع، إلا أن الترقب أبي أن ينقشع. حال الترقب المشوب بالرعب تنتظر ما ستسفر عنه الأحداث خلال الساعات القليلة المقبلة، لكن مؤشراتها أوضح ما تكون على الأثير العنكبوتي. فبين الدعوة إلى حشد «الإخوان» في عابدين حيث «إديله مياه إديله نار، مرسي رئيسنا رئيس جبار» إلى التهاني الثورية المتبادلة في التحرير: «مبروك علينا الإعدام يا رجالة»، يتسع أثير عنكبوتي هائل للجميع، وذلك على العكس من أرض الواقع التي يحاول بعضهم الاستحواذ عليها لنفسه طارداً الآخرين إلى «حتة مزنوقة» لا يخرجون منها. لكن الخروج دائماً متاح على أثير الإنترنت طالما لم يتم قطعه بعد، فإذا كان بعضهم متخوفاً من قرب المسافة بين ميداني عابدين والتحرير، وما قد ينجم عن ذلك من سهولة قيام طرف بالاحتكاك بالطرف الآخر، فإن التلويحات الآتية من عابدين تشير إلى الاستعداد لذلك. «فايسبوك» المحبين والمريدين والداعمين والمناصرين ل «الإخوان» بات منذوراً لسلخ كل من ينتقد إعلان الرئيس محمد مرسي. فكل من تجرأ وانتقد حشد «الإخوان» في الباصات من شتى أنحاء الأقاليم من أجل استعراض القوى «الإخوانية»، قوبل بتشكيلة فاخرة من التشكيك في الوطنية، والاتهام بالفلولية، والوصم بالعلمانية الهادفة إلى تشويه هوية مصر الإسلامية. وتأتي الردود والتعليقات على مواقف الرافضين للإعلان منددة تارة ب «الليبراليين الذين يريدون حرق البلد» وتارة شاجبة ل «الوقوف في وجه الإرادة الشعبية التي وضحت وضوح الشمس أمام قصر الاتحادية يوم الجمعة الماضي» وتارة أخرى سابة: «يا علمانيين يا... هنطلع ...». طلوع محبي «الإخوان» ومريديهم بهذا الشكل لم يرهب المسيرة العنكبوتية لمعارضيهم. فبدلاً من مقولة الداعية الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي إن «الثائر الحق هو الذي يثور على الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد» اختار البعض أن يحورها إلى «الثائر الإخواني الحق هو من يثور مؤيداً لقرار، ثم يهدأ ليعرف القرار». وذلك في ضوء الحشد «الإخواني» المؤيد لقرارات الرئيس ونزول أنصار الجماعة إلى الشوارع بالآلاف قبل معرفتهم بفحوى تلك القرارات. وتبقى قرارات الرئيس مرسي المعلنة هي محور الأحداث، حتى وإن جنحت الأحداث نفسها لتكشف الغطاء عن غليان سياسي بين فصيل إسلام سياسي بزغ نجمه فجأة بعد سنوات من العمل في الشارع مع الفقراء، وآخر ليبرالي اكتفي بالتنظير قبل الثورة وبعدها. ويؤكد أحدهم أن «أيلول (سبتمبر) 1981 خريف غضب، وتشرين الثاني (نوفمبر) 2012 خريف عبط». لكن العبط كل العبط أن يعتقد البعض أن الاتهامات المتبادلة بين عابدين حيث يتم نعت التحرير بالبلطجة والفلولية والمأجورين، والتحرير حيث يتم النظر إلى حشود عابدين باعتبارها «قطيعاً لا يفهم بل يطيع» أو «أتباع المرشد الذين لا يعرفون سوى السمع والطاعة» هي الغرض من الخلاف في وجهات النظر، والاحتكام إلى كل من عابدين والتحرير والمتنافس على الحشد. عابدين التي تستعد لتجمع «إخواني» حاشد والتحرير الحافل بمتظاهرين و «مندسين» وقوات أمن يلقيان بظلال وخيمة على الجميع. وبين جهود حثيثة وواضحة وضوح الشمس للاستحواذ على مقاليد الأمور من دون ضابط أو رابط أو مراجع، وآخر مناهض لهذا الاستحواذ انتقلت حرب الكتابة من على جدران «فايسبوك» و «تويتر» إلى جدران شوارع وسط القاهرة. فهناك من جال بألوان فاقعة وشطب كل ما وجده من كلمة «عسكر» مستبدلاً إياها إما ب «الإخوان» أو «المرشد» في العبارة الشهيرة «يسقط حكم العسكر»، فما كان من جداري آخر إلا إعادة الشطب وكتابة «الليبراليين» أو «حمدين» أو «موسى» أو «البرادعي». وتظل دعوات التهدئة منخفضة الصوت قليلة التأثير في المشاعر المتأججة بين استعلاء «إخواني» ورفض ليبرالي وقرف شعبي. وبين جهاد عنكبوتي، وتهديد ووعيد شارعي، فاض الكيل بجموع المصريين غير العنكبوتيين، والبعيدين من المشاركة في الاعتصامات والتظاهرات، والذين أخذوا يخفضون سقف مطالبهم خلال العامين الماضيين من «عيش وحرية وعدالة اجتماعية « إلى «عيش وحرية» ثم «عيش» وأخيراً «الشعب يريد أن يعيش» سواء كان ذلك في عابدين أو التحرير أو ما بينهما.