منتهى التناقض بين مشهدين أمس. عاد هتاف «الشعب يريد إسقاط النظام» يدوي مجدداً من ميدان التحرير في مقابل تكبيرات الحمد والشكر وصيحات التهليل والتأييد للنظام نفسه أمام قصر «الاتحادية». هتف الميدان مندداً بقرارات الرئيس «الاستبدادية»، وكبرت «الاتحادية» لقرارات الرئيس «الثورية». وحين كان ثوار الميدان يجولون مرددين: «يسقط يسقط حكم المرشد»، وقف شباب «الإخوان» يصرخون»: «الشعب يؤيد قرارات الرئيس». قائدو هتافات التحرير خرجوا يهتفون من أجل استعادة الثورة المنهوبة وإعادة إحياء العيش المسروق والحرية المسلوبة والعدالة الاجتماعية المفتقدة، في حين أكد مشايخ «الاتحادية» أن الجموع «خرجت من أجل الله تعالى، وشاء العلي القدير أن يصادف ذلك يوم تاسوعاء السابق لعاشوراء، وكل من يقول عكس ذلك فقد أثم إثماً عظيماً، وما يقال في الإعلام الفاجر أن القرارات تحول الرئيس إلى ديكتاتور آثم». كان الخط الفاصل قبل عامين يفصل بين مصرين، مصر التي في الميدان، وتلك القابعة على «الكنبة». واليوم، يبقى الخط الفاصل، لكن بين مصرين، واحدة في التحرير والثانية في «الاتحادية». الأولى تصنف الثانية بأنها من ركبت الثورة وسلمت مصر للمرشد وقالت «سمعاً وطاعة» لما يصدر عن الجماعة قبل صدوره، والثانية وصمت الأولى بالفلولية والانتهازية والفوضوية. في هذا المناخ كان الانقسام سائداً: أعلام مصر ذات النسر المحلقة في ميدان التحرير من دون سواد رايات الجهاد أو اخضرار أعلام الجماعة، قابلها عدد من أعلام مصر وسورية وفلسطين وملصقات حملة الرئيس مرسي الانتخابية التي خرجت من مخازن مقار «الإخوان المسلمين» لتدعم اللافتات التي جرى تجهيز بعضها على عجالة لتأييد قرارات الرئيس «العظيمة»، وبعضها صنع بعناية يحمل صور الرئيس المبتسم، لكن يكشف عن أسنانه هذه المرة في ابتسامة جميلة. جمال ابتسامة الرئيس زاد بهاء على بهاء بهالة القدسية التي تم إضفاؤها عليه، فخطيب «الاتحادية» الذي اعتلى منصة نصبت في عرض شارع الميرغني حيث القصر ألقى خطبته العصماء على خلفية لوحة جميلة عليها نقوش لطائر أبيض ضخم خمن البعض أنه «طائر النهضة» الذي خرج ولم يعد. «طائر النهضة» الذي حط في في شارع الميرغني في مصر الجديدة لم يصل عن طريق الجو، بل جاء براً إذ اصطفت عشرات الحافلات الآتية من المحافظات في الشوارع الخلفية لقصر الاتحادية. أتت الباصات هذه المرة محملة بأنصار «الإخوان» من الرجال فقط، وذلك عكس عمليات الحشد السابقة التي كانت تمكن العائلات والأطفال من قضاء يوم ممتع في أحضان ميدان التحرير. ورغم ظروف الطقس الخريفي المائل للبرودة أمس، إذ حجبت السحب الكثيفة أشعة الشمس، إلا أن أحد مشايخ «الاتحادية» شكر المحتشدين الذي يتكبدون حرارة الشمس. وأشار آخر إلى أن «الشعب خرج من أجل الله سبحانه وتعالى وليؤيد قرارات الرئيس»، وهي القرارات التي وصفها نائب رئيس حزب «الحرية والعدالة» عصام العريان بأنها «إنقاذ من الله للثورة». بل ووصلت الأجواء الإيمانية العميقة عند «الاتحادية» إلى درجة تأكيد أحد المشايخ أن رئيس «نادي القضاة» أحمد الزند «سيقيله الله». هذه الهالة الإيمانية التي طغت على شارع الميرغني في أوصاف افتقدها المصريون منذ كان صحافيو النظام السابق يستخدمون آيات قرآنية على سبيل تمجيد الرئيس السابق حسني مبارك أثارت دهشة مصر التي في الميدان، والمصنفة من قبل مصر التي في «الاتحادية» بأنها «علمانية ليبرالية» وأشياء أخرى تتعلق بالتشكيك في الإيمان. وبينما مشايخ «الاتحادية» ينددون ب «الإعلام الفاجر» من قنوات خاصة وجرائد مستقلة، وهي الآثمة التي تشكك في قرارات الرئيس، وسط تكبيرات «الإخوان» المحتشدين عند «الاتحادية»، كانت قناة «الجزيرة مباشر مصر» تدلو بدلوها فقسمت شاشتها إلى قسمين الأول للاتحادية حيث يصلي «الإخوان» صلاة الجمعة والثاني حيث يطالب التحرير بسقوط حكم المرشد، ما فجر باب الرسائل النصية القصيرة التي لم تقتصر هذه المرة على «أم شيماء» التي تناصر الرئيس مرسي وتفديه بحياتها فقط، لكن امتدت إلى «أبو حسين من الشرقية» و «أم حسام من الغربية» و «حسين من الدقهلية» ينددون بجموع المرتزقة في التحرير الذين لا يصلون الجمعة. جمعة «الغضب والإنذار» تحريرياً أو «جمعة مناصرة قرارات الرئيس» اتحادياً أوقعت مصر بين شقي رحا، فبدل أن يختلف المختلفون على سبل تحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، بات الاختلاف متأججاً على إذا ما كان مرسي والجماعة يضعان حجر الأساس لديكتاتورية «إخوانية» مستبدة أم أنهما بصدد صنع إله جديد بديل عن «الرئيس الزعيم» جمال عبدالناصر، و «الرئيس المؤمن» أنور السادات، و «الرئيس الأب» حسني مبارك، ليكون لدى المصريين «الرئيس المقدس»، أم أنها قرارات ثورية موقتة سرعان ما تزول بعد الانتهاء من كتابة الدستور العاكفة على كتابته تيارات الإسلام السياسي، وعودة البرلمان المسيطرة عليه تيارات الإسلام السياسي، وإصلاح القضاء والداخلية والأزهر ودار الإفتاء من قبل تيارات الإسلام السياسي. ما علينا سوى الانتظار.