ولّت أيام كان المصريون لا يتفوهون إلا بالعبارات الثورية المحملة بشرعية «التحرير» وعبقرية الميدان، كما انقضت أيام شغلوا أنفسهم خلالها في التحقق من نوعية «الفترة الانتقالية» وهل هي «انتقامية» أم «التباسية» أم «انفجارية»؟ واختفت كوكبة الوجوه التي دأبت على أن تطل عليهم على مدى ال24 ساعة تارة ببزة عسكرية تذكر «شعب مصر العظيم» بأن «الجيش حمى الثورة»، وأخرى بقميص إيطالي وعطر فرنسي وعبق أميركي جازمة بديموقراطية الدولة وليبرالية الدستور وحاشدة ل «جمعة حماية الثورة»، وتارة بلحية مشذبة تؤكد أن «الإخوان المسلمين» كانوا جزءاً من الثورة، وتارة ثالثة بلحية مشعثة محذرة الجميع من عذاب يوم القيامة إن هم لم يطبقوا شرع الله. ومرت الأيام وانقضت الأسابيع، وتغيرت مفردات المصريين المكتسبة عبر شهور - تبدو كدهور - الثورة وما بعدها، واستهل الجميع فصلاً جديداً في معاجم مصطلحاتهم، لا سيما «المصباح الثوري المنير» و «القاموس الشعبي المحيط». وبعد معاناة طويلة مع مفردات وفعاليات «الانفلات الأمني» و «الخلل الشرطي» و «انتشار البلطجة»، تعيد وزارة الداخلية صوغ المنظومة الأمنية بحملات «استعادة الأمن» وإزالة الإشغالات ومواجهة البلطجة والقبض على الهاربين واستعادة السيارات المسروقة وضبط الأسلحة البيضاء وتطويق تجار المخدرات ومداهمة الأوكار وتطهير البؤر الإجرامية بمصاحبة إعلامية منظمة، ما دفع الجميع إلى الحديث عن «نزول الأمن الشارع» و «استعادة عافية الشرطة» و «ربنا يوفقهم لكن من دون عنجهية زمان». ويبدو أن «عنجهية زمان» ذهبت إلى غير رجعة لتحل محلها «عنجهية الحاضر» ولكن بلباس ثوري مموه باقتدار حتى يكاد الرائي لا يلحظ أنها عنجهية من الأصل. حرب كلامية شرسة تدور رحاها بين الفريق «الإخواني» الذي يعمل بكل نشاط وجد وكد في القصر الرئاسي ومقر مكتب الإرشاد وموقع حزب «الحرية والعدالة» وهيئات الدولة المختلفة من جهة، وبين الفريق الليبرالي الذي يعمل هو الآخر بكل جد وإخلاص ولكن على شاشات الفضائيات إن لم يكن عبر التجوال على برامج ال «توك شو» ليلاً فبالصولان عليها صباحاً شارحين ومنظرين ومحللين ومفندين، وأحياناً بالاستحواذ على البرامج نفسها ليس بالحلول ضيوفاً فيها ولكن بتقديمها وإعدادها. اتهامات الفريق الليبرالي للفريق الإخواني ب «الاستحواذ» و «التكويش» و «الإقصاء» و «الأخونة»، بات الفريق المضاد يرد عليها تارة بنفي «الاستحواذ» وتأكيد «المحاصصة»، وتارة أخرى برفض «الإقصاء» وتأكيد «المأسسة». لكن ليس هناك ما هو أفضل من إعادة «مأسسة» البرمجة اللغوية العصبية للمصريين عبر «تسونامي» الأحاديث والحوارات السياسية التي تحاصرهم أينما ذهبوا. واجه البعض صعوبة في البداية في إعادة هيكلة الحديث عن «الريس» باعتباره محمد مرسي وليس محمد حسني مبارك، حتى أن البعض كان يفاجأ بنفسه دامجاً لهما في «محمد مرسي مبارك»! وإذا كان النظام السابق نجح خلال ثلاثة عقود في وضع تعريف جديد ل «الخطة الخمسية» بأنها «الخطة التي قد يلحق ببوادرها الأحفاد ولكن في أيامهم الأخيرة» و «العشرية» بأن «تحقيقها من عاشر المستحيلات»، فإن النظام الجديد يعمل حالياً هو الآخر على إعادة صوغ المقصود ببرنامج «المئة يوم» للرئيس مرسي. وبدل التفسير الشعبي الساذج الذي لم ير سوى المعنى العددي الفج المباشر، ظهرت تفسيرات أخرى أكثر عمقاً ودلالة. محبو «الإخوان» يرون أن «المئة يوم» رمز أسمى وأرقى من أن يتم عده بعداد دنيوي رخيص. أما أنصارهم فكانوا يرون أن المئة يوم لا تبدأ إلا بتعيين رئيس الوزراء، ثم ارتأوا أن تبدأ بعد إعلان التشكيل الوزاري، ثم فكروا ملياً ليصلوا إلى أن المئة يوم لا تستهل إلا بتغيير المحافظين، لكنهم راجعوا أنفسهم وفضلوا أن تكون مع إحلال وتبديل جميع المسؤولين المرتبطين ب «الدولة العميقة». أما «الإخوان» أنفسهم فتوقفوا عن الحديث عن برنامج «المئة يوم» من الأصل لعل الأيام تكون كفيلة بالنسيان. ولأن النسيان نعمة كبيرة، ومعروف عن المصريين قلوبهم الطيبة وميلهم الفطري إلى النسيان باعتباره وسيلة للبقاء على قيد الحياة، فقد نسوا أو تناسوا الأعراض الجانبية التي نجمت قبل أشهر عن زيادة جرعة التصريحات والظهور الإعلامي ل «الإخواني» البارز صبحي صالح. لكن سرعان ما امتلأت حياة المصريين صخباً وحراكاً بظهور رموز «إخوانية» أخرى غمرت أوقاتهم بالأحداث وأثرت مخزونهم اللغوي بالكلمات والأفكار الجديدة، ومنها توقع ظهور أحكام قضائية معينة مثل عودة البرلمان المنحل، وإضافة نوعية جديدة من الشرعية ألا وهي «الشرعية الشعبية» بديلاً من القوانين والتي يشار بها إلى شرعية كيان جماعة «الإخوان المسلمين»، وهو نوع جديد من الشرعية مرجعيته الشارع. وبما ان الشارع ينضح بالأحاديث السياسية البالغة العمق والثراء اللغوي والابتكار الفكري، وجد المصريون أنفسهم يستبدلون عبارات تاريخية أكل عليها الزمان وشرب وكانت تُستخدم كتهم سابقة التعليب مثل «الإساءة إلى سمعة مصر» و «تشويه إنجازات الحكومة» و «إهانة رئيس الجمهورية» بأخرى تواكب المرحلة الجديدة وأبرزها «المساس بهيبة الدولة» و «تفكيك مؤسساتها» و «محاولة إفشال نجاحات الرئيس»، لكن تم الإبقاء على منظومة «إهانة رئيس الجمهورية» لأنها صالحة لكل مكان ولكل زمان. وهناك ما يصلح لكل مكان وزمان لكن بإضافات، فمثلاً مقولة أن كذا من رابع المستحيلات بعد الغول والعنقاء والخل الوفي، أضاف إليها البعض أخيراً «طائر النهضة» الذي كان الرئيس مرسي أشار إليه على سبيل تشبيه «مشروع النهضة» الذي وعدت به الجماعة المصريين، ثم خرج نائب المرشد خيرت الشاطر ليفاجئ الجميع بأن المشروع الذي خاض مرسي الانتخابات به برنامجاً، مبدئي وليس نهائياً أو متكاملاً كما يشاع في الإعلام، وذلك على رغم أن مرسي كان حدد ملامح الطائر في شكل مفصل بما في ذلك الجناحان والمؤخرة! لكن لحسن الحظ أن قاموس المصريين أبعد ما يكون عن وصول آخره، وما دام الحراك السياسي مستمراً، والصراع «الإخواني» - غير «الإخواني» قائماً، وماكينة الإعلام تدور، ستبقى مفردات المصريين في حالة «مأسسة» مستمرة من دون «محاصصة» للعبارات أو «تكويش» على الألفاظ مع مراعاة «الشرعية الشعبية» ومن دون المساس ب «هيبة الدولة».