ظن المصريون أنهم بصدد 30 يوماً يرفعون خلالها شعار «فاصل ونواصل». اعتقدوا أنهم بصدد شهر من الهدنة الرمضانية، يصومون فيها ويعودون إلى طقوس الشهر الكريم الذي لم يعرف يوماً فرقاً بين «إخواني» و «ليبرالي»، ولم يفرق في حكمه على الصائمين بناء على تمسكهم ب «تأسيسية» الدستور أو مقاطعتهم لها، كما لم يعهد من قبل تقسيماً جغرافياً للميادين بين صائمين «حازمين» وآخرين «شفيقيين». لكن القدر أراد أن يستهل الشهر الكريم أيامه بما من شأنه أن يمعن في تقسيم الصائمين وتفريق الصفوف بناء على حجم الثورية ومقدار الكراهية للنظام السابق ومعيار القدرة على هضم حكم «الإخوان المسلمين» في سبيل هدف أسمى ألا وهو دحض سيطرة العسكريين. وبدلاً من ساعات الصوم ال15 التي توحد الصفوف، سواء ابتغاء مرضاة الله، أو تناحراً في مرور متلعثم، أو صموداً في طابور «كنافة» و»قطائف» متشعب، أو حتى مقاومة لأنهار عرق تفيض من الجميع تحت وطأة شمس حارقة، وجد المصريون الصائمون أنفسهم ضالعين في معارك فكرية وأخرى عنكبوتية وثالثة جغرافية محورها وفاة نائب الرئيس المخلوع مدير الاستخبارات العامة السابق اللواء عمر سليمان، بين حزين على رحيل من أطلق عليه «صندوق الإخوان الأسود» و «أسد المخابرات» و «الجنرال القوي» وبين مبتهج لموت من وصفه بأنه «رجل المهمات القبيحة» و»رجل الدولة العبرية الأول». أول القصيدة كان هجاء من بعض شباب الثورة وآخرين من تيارات الإسلام السياسي، لا سيما جبهات سلفية ومتعاطفين مع جماعة «الإخوان». وكان أنصار سليمان قد أطلقوا عليه لقب «عوّ (عفريت) الإخوان» كنوع من الدعاية الانتخابية الذكية له عقب إعلان نيته الترشح لمنصب الرئاسة. سيل عارم من الانتقاد المشوب بالشماتة انهال عبر «فايسبوك» و «تويتر» وحمل دعوات على الرجل بأن يلقى حساباً يناسب في عسره ما فعله بالبلاد وما فعله ب «الحركات الإسلامية»، وذهب بعضهم إلى حد المطالبة بعقاب من يشارك في جنازته أو يقدم العزاء لأسرته. في الوقت نفسه، احتفظ المتعاطفون مع «الإخوان» بقدر كبير من ضبط النفس والتحكم في المشاعر، على الأقل على الأثير العنكبوتي، ربما لأسباب تتعلق بالبروتوكولات الرئاسية وعدم الانتقاص من الرئيس «الإخواني» محمد مرسي. وجاءت تغريدات «الإخوان» على شاكلة «خلافنا مع عمر سليمان كان في شأن الدنيا أما وقد انتقل إلى ربه فقد أفضى إلى ما قدم ولن أدعو عليه بالجحيم إنما بالمغفرة والرحمة»، و «انقطع خلاف الدنيا وبقي خلاف الآخرة وهو بيد الله إن شاء عذب وإن شاء غفر، لكن لو كتبت عنه سأكتب عن إساءاته ولكنني لن أشمت في موته». وفي حين طالب بعضهم بعدم المشاركة في الجنازة، أطلق آخرون العنان لبنات أفكارهم لتصب جام الغضب على الجنرال الراحل. كتبت مذيعة تلفزيونية عرفت بثوريتها على صفحتها على «فايسبوك»: «خالد سعيد مات وقالوا إنه حشاش، وسيد بلال مات قالوا انه إرهابي، أما مينا دانيال فقالوا بلطجي، لكن حين يموت عمر سليمان يقولون اذكروا محاسن موتاكم». ناشط على «تويتر» التقط خيط ذكر محاسن الموتى وكتب: «الآن وقد رحل عمر سليمان علينا أن نذكر محاسن موتانا، وسأفعل ذلك: مينا دانيال والشيخ عماد عفت». وانتشرت على «فايسبوك» صورة للواء الراحل ومكتوب أسفلها «بعد ساعات قليلة تبدأ محاكمة اللواء عمر سليمان عن كل أعمال حياته محاكمة عادلة منصفة لا تأجيل فيها، ولا تلاعب بالقوانين ولا تحتاج إلى شهود ولا هيئة دفاع، مقرها الدار الآخرة، وقاضيها الحكم العادل». وبعيداً من عدالة السماء وفي اتجاه المعايير الدنيوية للعدالة، انتشرت تناحرات عنكبوتية بين أنصار سليمان الذين يرفضون حضور مرسي الجنازة، وأنصار الأخير الرافضين أيضاً حضوره الجنازة، لكن لكل أسبابه. وتعرض أنصار المرشح الرئاسي الخاسر الفريق أحمد شفيق لعملية تعذيب نفسي وضغط معنوي وسخرية علنية، في ظل غياب شفيق عن حضور الجنازة. وانتقدت الصفحات المؤيدة لنظام الرئيس المخلوع حسني مبارك غياب الفريق الذي سافر في رحلة «عمرة» طويلة إلى أبوظبي غداة إعلان نتائج الانتخابات. فريق آخر من محبي اللواء الراحل تحدى حرارة الشمس وأقام سرادق لتلقي العزاء أمام المنصة في حي مدينة نصر شرق القاهرة، وهي البقعة الجغرافية التي صارت مرتبطة بجماعات مثل «آسفين يا ريس» و «أنصار الفريق» و «محبي عكاشة» (الإعلامي توفيق عكاشة)، إضافة إلى مجموعات أخرى رافضة لحكم «الإخوان». في الوقت نفسه، وللمرة الأولى منذ احتلال ميدان التحرير من قبل تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها «لازم حازم» (أنصار المحامي السلفي حازم صلاح أبو إسماعيل) وتيارات سلفية إضافة إلى حشود «الإخوان» التي يجرى شحنها من الأقاليم وحشدها وقت اللزوم، انتظمت حركة المرور في الميدان وكأن شيئاً لم يكن وكأن سليمان لم يمت. انتظام المرور في الميدان الذي بات لسان حال الإسلام السياسي قابلته حركة مرور مصابة بالشلل في شارع صلاح سالم أثناء نقل جثمان سليمان عقب وصوله من الولاياتالمتحدة فجر أمس، فقرأ الآلاف من المحشورين في السيارات طواعية أو اضطراراً والمحتشدين لتحيته ومن ترجلوا هرباً من الزحام، الفاتحة على روحه، مذيلة إما بالدعاء له أو عليه، وتبقى النوايا ملكاً لله.