بعد الانضواء تحت لواء العمل المؤسسي مع تغيّر الزمن وتطور آليات الإدارة، كان القانون هو الفيصل الذي يُنظم حياة الناس ويرتب العدالة بين طبقات المجتمعات ويحافظ على الموارد، فتلاشى دور فرض قوة الأفراد والمجموعات النافذة، وزاد من استقرار أنفس الصالحين والمُسخرين أنفسهم للعلم والمعرفة، وسَعِد الضعفاء بالإنصاف، مع تحول اهتمام العقول إلى ما ينفع الناس في ظل حكم عدالة اجتماعية وتكافؤ فرص الإنتاج والإبداع. أمام المساحة العدلية انبعثت روح التنافس باطمئنان وثقة بمفهوم الدولة الحديثة في الغرب والشرق بعد أن رَسخّوا للعقد القائم بين الشعب والسلطة المنتخبة الملتزمة بضمان الحقوق وتطبيق القانون والحفاظ على سيادة الدولة، وهي تحت نظر الأمة ومراقبتها، وفي حال الإخلال بأي من التزاماتها يكون القصور عقاباً بعد أن يقوم الشعب بإنهاء خدماتها عن طريق انتخابات جديدة بسلوك يعكس حضارة التمتع بقواعد التنظيم الديموقراطي التنافسي الإبداعي المستمد من قيم وتطور المجتمعات وتطلعاتها. مهما يكن حجم التحديات التي تواجه دول العالم المتقدم، فإن الإحباط والتقهقر أصبح جزءاً من تاريخ القرون الوسطى ب «اللاعودة»، مع بحث وفكر يُطور آليات وأساليب الإدارة والعمل والإنتاج، والتنافس الميداني على مواجهة التحديات من خلال تقديم برامج تمر عبر بوابات الفحص المؤسسي والشعبي، وبعدها يودعون أصواتهم في صناديق القرار النزيهة المؤطرة بالعقد الاجتماعي، ومن صوت «بنعم» أو «لا» يُسَلّم بالنتائج بروح وطنية عالية. هناك عالم متقهقر لا يزال يبحث عن صيغة العقد بين الحاكم والمحكوم، ينظر إلى التجربة الغربية بنظرة وتطبيقات مختلفة، فمجموعة من الدول أخذت بها شكلاً وأفسدتها مضموناً، وألقت باللائمة على المؤامرات الخارجية، المدفن الذي حُفر في عقول لا تعترف بالعجز أو الحاجة إلى التغيير، وهمها الأول والأخير أن تبقى في ظلال حكم وارف مهما تغيرت حاجات البلاد والعباد. مجموعة دول أخرى تعمل بمنهجية ديموقراطية الترقيع، توابيت انتخابات تسيطر عليها أجهزة الأمن، والعسكر يراقبون الموقف داعمين لمن يوفي بوعده بالمحافظة على مكتسباتهم ومصالحهم المُعلقة بسراديب فساد تمر عبر صفقات سفن وطائرات وأسلحة حربية. مجموعة ثالثة من دول كانت نامية قادتها ماليزيا، انتصر الشعب على ذاته، وهزم السياسيون مصالحهم وحطموا أصنام التحديات، اعترفوا بعقولهم القادرة على صناعة المجد، ووطنوها معرفةً في عقول أبناء الشعب، فأعادوا التوازن لشخصية الإنسان الماليزي، وبعد أن رفع رأسه سمع وقرأ عن التشريعات والعدالة الاجتماعية التي تُنظم العلاقة والعقد بين الحاكم والمحكومين، وبعد الاطمئنان شَمّر عن سواعده منهمكاً بجد وإخلاص في البناء المعرفي والتنموي. لم تكن للإرادة الحديدية، التي رسم لها الزعيم الفذ «مهاتير محمد»، أن تتزعزع، على رغم «مدفن» الأزمة المالية العاصفة في نهاية التسعينات، لكن كوادر إدارة الحكم المؤهلة التي تقود عملية البناء والتطوير تصدت لها بالعمل وبالقرارات الوطنية الرافضة لضغوط صندوق النقد الدولي، وخرجت ماليزيا من الأزمة المالية أقوى من ذي قبل، وجعلت من تجربتها الرافضة للإملاءات عبرةً لمن يعتبر. التجربة «المهاتيرية» التي اهتمت بالتعليم وبناء الإنسان نقلت ماليزيا من بلد يعتمد على الزراعة أساساً للاقتصاد إلى قوة اقتصادية عالمية يشكل فيها قطاعا الصناعة والخدمات 90 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي، والأهم تهيئة الإنسان ونقله من حال السبات إلى واحة الحركة والعمل والإبداع. من السهولة أن تكتشف المزيج المر والعجيب في خلطة إدارة الحكم العربي، فلو فصلنا التجارب التي مرت على العالم من العصور الوسطى إلى عصرنا هذا، وحدّدناها في نقاط للإجابة عنها «تنطبق» أو «لا تنطبق» على الدول العربية، لخرجنا بتجربة تستحق الاهتمام والبحث لنُعلم الأجيال المقبلة أخذ العبرة والحذر منها، وسيكون في ذلك الدرس الأول والمهم لإعادة بناء الدول والإنسان العربي كما ينبغي. مازلنا نعيش ربيع الثورات المختلطة بالريبة والشك، المأخوذ بالتقويم السطحي على مقاسات الذقون، ودول لا تزال تراهن على «البترودولار» بإنفاق عائدات النفط في تخمة الأسواق الاستهلاكية، وعجز لحل معضلة أسوار الإقطاع الحديدية، واستحالة إقامة مساكن معلقة لأن الصكوك ستطير في الهواء؛ وكيف يستطيع عالمنا العربي معالجة البطالة وضجيج أصوات المعلمين في المدارس والجامعات يتردد بالقول: «في يوم الامتحان يُكرم المرء أو يهان»، ولن نسخر من قوم تجاهلوا نظرية «ابن خلدون» التي وضعها قبل أكثر من ستة قرون في الحق الطبيعي للتعايش بين الناس داخل الدولة من خلال دستور يرضاه الجميع أو الغالبية، يكون بمثابة العقد الاجتماعي، وينظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين؛ لو عمل به العرب لرأوا مفعوله السحري في القضاء على الشك والريبة والتخوين، لو طبقوه باقتناع ورغبة لتخلصوا من تركة وعبء ثقيل خلفها زمان أغبر، وأراحوا الشعوب العربية من القيل والقال وكثرة السؤال، وتوجهت الطاقات البشرية الكامنة للمعرفة والعمل والإنتاج والانصراف عن السياسة باقتناع الواثقين بعد إيداعها أمانة لدى القوي الأمين. مع شديد الأسف أمة مأسورة تعوقها رمال خشبية، تلهث خلف حملات «أ، ب، ت»، «صحة، تعليم، ترشيد» لتوعية الراشدين، وأطفال يكبرون على جهل ممارسات الكبار، أمة يحرق الوقود مستقبلها، والظاهرة الصوتية عنوان الحلول والتخطيط للمستقبل، وثقافة عقارية تُوطّن حضارة إسمنتية؛ وهناك حجم هائل في المساحة والمعنى بين رئيس مثل باراك أوباما بخطاب المنتصر يقول للشعب الأميركي: «أصغيت إليكم، وتعلمت منكم، وقرأت قصصكم»، وبين حاكم يحمل سيوف السلطة المطلقة يسأل شعبه بعد حكم الثلاثين عاماً «متنكراً»... من أنتم؟ فقتلوه... أما أوباما الذي حمله أب مهاجر ذو بشرة سوداء، عانقته أجناس بشرية تحمل أحلاماً أصغى إليها الرئيس وقرأها وتعلم منها... أيحق لنا بعد كل هذا أن نضحك، أم نبكي، أم نكتفي بتغريدات المُحبطين؟! إنني أسمع بكل وضوح ضَحِكات الأمم والتاريخ علينا، ويعود الصدى بالبكاء على خير أمة أُخرجت للناس، وهم لا يزالون في صراع الاختلاف على المعروف والمنكر، ليس لعدم تبيانه ووضوحه، بل لأنهم خلطوه في إناء المصالح فعجزوا عن قول الحق والصدح به أمام كائن من كان، وعندما مَزّقوه «المعروف والمنكر» اختلفوا ثم تناحروا وتفرقوا فذهبت ريحهم. * كاتب سعودي. [email protected] @alyemnia