1- أسئلة الحيرة السببية نظرية علمية تحدد مدى اعتبار واقعة معينة مقدمة لازمة وكافية لإحداث واقعة تالية بحيث ترتبط الواقعتان فيما بينهما برابطة السبب بالنتيجة، وهي نظرية ضرورية لفهم الطبيعة وتفسير السلوك الإنساني. ولعلّنا نحتاج اليوم بشدة لأن نستحضر نظرية السببية ونتأمل في صلة الأسباب بالنتائج لمزيد من فهم واقعنا الاجتماعي والسياسي والثقافي، إذ يبدو أننا نخلط بين ما يعد سبباً وما يعتبر نتيجة في الكثير من مشاهد الحاضر العربي. وعلى سبيل المثال نحن نعتقد أحياناً بأن غياب الديموقراطية هو «سبب» لواقع التخلف الحضاري الذي يعيشه العرب منذ زمن بعيد. هذا التخلف الذي نفضل تسميته بالمأزق الحضاري تتجلى أبرز مظاهره (العلمية) في فجوة معرفية آخذة في الاتساع بيننا وبين العالم المتقدم، و (الاقتصادية) في ضعف قدراتنا الإنتاجية مقارنة بالاقتصادات الغربية بل والآسيوية، و (السياسية) في التشرذم العربي بتجلياته الحاضرة في فلسطين والعراق والسودان. حسناً... يعتقد كثيرون أن السبب المشترك الذي أنتج هذا المأزق الحضاري هو غياب الديموقراطية. يترتب على ذلك بالمنطق ذاته الاعتقاد بأن زوال هذا «السبب» يعني زوال واقع التخلف «النتيجة» والانتقال الى وضعية التقدم. لكن هل صحيح حقاً أن غياب الديموقراطية هو «سبب» مأزقنا الحضاري أم أنه «النتيجة» لهذا المأزق؟ وإذا كانت المعضلة الديموقراطية هي نتيجة مأزقنا الحضاري وليست سببه ألا يكون جديراً بنا إعادة البحث عن مجموعة الأسباب الأخرى التي أنتجت هذا المأزق؟ وكمثال آخر لإشكالية الأسباب والنتائج في حياتنا ما يعتقده بعضهم من أن المؤامرة الغربية في زرع إسرائيل في المنطقة والدعم الغربي - الأميركي لإبقاء توازن القوى لمصلحتها على حساب العرب هو «سبب» آخر لمأزقنا الحضاري كاشف عن قرار غربي بعدم السماح للعرب بأية محاولة للوحدة أو الاستقواء. لكن مرة أخرى يطرح السؤال نفسه: هل كان وجود إسرائيل في المنطقة ونجاح ما نسميه بالمؤامرة الغربية ضدنا «سبباً» حقيقياً لمأزقنا الحضاري أم هو بالأحرى «نتيجة» طبيعية لهذا المأزق ونتاج منطقي لما نحن عليه من ضعف؟ وهنا يكون علينا واجب البحث عن أسباب وتفسيرات أخرى لأنه لو لم توجد إسرائيل في المنطقة لما تغير حالنا كثيراً عن الحاصل الآن. فالمأزق الحضاري العربي سابق تاريخياً على وجود إسرائيل في المنطقة ولم يكن لاحقاً عليه حتى نعتقد بأنه سبب لنتيجة. ولو أننا انتقلنا من الواقع السياسي الى الواقع الاجتماعي الاقتصادي لعثرنا على أمثلة أخرى تختلط فيها الأسباب بالنتائج في حياتنا. فهناك من يعتقد، على سبيل المثال، أن ضعف الحافز المادي وضآلة الأجور والرواتب هي «سبب» لتراجع قيم الاجتهاد والإخلاص والإتقان في العمل. وحين نتأمل هذه الإشكالية نكاد نصل الى أن غياب هذه القيم وضعفها في مجتمع كمصر هو «سبب» وليس «نتيجة» لضآلة الأجور لأن تراجع هذه القيم هو ببساطة شديدة أحد أسباب ضعف الإنتاج وتواضع جودته وقدرته التنافسية، ما يفقد الدولة عائدات مالية كانت ترتجى فيما لو كان لدينا إنتاج وافر جيد يمكن تصديره الى الخارج. هذه العائدات المالية للإنتاج والتصدير كانت وحدها الكفيلة بزيادة الأجور والرواتب في بلد محدود الموارد الطبيعية مثل مصر. ويزداد مثل هذا التفسير وضوحاً حين نقارن عائدات ما ينتجه المصريون (كمّاً وجودة) من محاصيل وسلع ومنتجات أخرى بعائدات دولة منتجة (ليس فيها موارد طبيعية مثل مصر) كاليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية. ففي مصر تبلغ قيمة الصادرات نحو 16 بليون دولار تصل الى نحو 11 بليون دولار فقط كصادرات سلعية إذا استثنينا صادرات النفط والغاز. ولهذا كان طبيعياً الا يتجاوز نصيب الفرد سنوياً من الناتج المحلى 5 آلاف دولار. أما في اليابان، النموذج الأشهر لمجتمع تسوده قيم الانضباط والإخلاص والإتقان في العمل كمنظومة اجتماعية وثقافية، فإن قيمة الصادرات تبلغ سنوياً نحو 700 بليون دولار (أي نحو 70 ضعف الصادرات السلعية المصرية)، لهذا كان منطقياً أن يصل متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الى 33 ألف دولار. وفي ماليزيا تبلغ قيمة الصادرات 176 بليون بليون (أي 17 ضعف الصادرات المصرية السلعية مع أن عدد سكان ماليزيا لا يتجاوز 26 مليون نسمة) ليكون نصيب الفرد من الناتج المحلى في ماليزيا 14 ألف دولار سنوياً. وبوسعنا أن نعدّد الأمثلة كي نصل الى النتيجة ذاتها: أن مستوى الدخل الفردي ليس هو سبب تغير منظومة القيم في المجتمع، وأنه ليس صحيحاً الاعتقاد بأن ضعف هذا الدخل الفردي وبالتالي ضآلة الأجور والرواتب هو سبب تدني وربما انحطاط قيم الانضباط والأمانة والإخلاص في العمل، وأن زيادة دخل الفرد وبالتالي ارتفاع الأجور والرواتب يصبح هو «سبب» توافر وتطبيق هذه القيم. المسألة تكاد تكون معكوسة تماماً فضآلة الأجور والرواتب ليست هي «سبب» ضعف منظومة قيم العمل بل هي «نتيجة» لها. 2- محاولة للتفسير إذا كان غياب التفكير العلمي هو أحد أوجه المأزق الحضاري الذي يعيشه العالم العربي، فإن فهمنا لنظرية السببية وصلة الأسباب بالنتائج هو مظهر بدوره لغياب هذا التفكير العلمي. والحاصل أن العقل الجمعي لدينا لا يكترث كثيراً بمنطق نظرية السببية في تفسيره لما نعانيه من ظواهر ومشكلات. وحين نميل الى الخلط بين السبب والنتيجة فنتصور ما هو نتيجة على أنه السبب فلأننا مشدودون الى «المظاهر» أو «الأعراض» بلغة الطب فنعتبرها من قبيل الأسباب. فالاستبداد أو غياب الديموقراطية ليس سوى مظاهر ونتائج وأعراض لسبب بعيد هو التخلف الثقافي والاجتماعي. هي ليست إذاً كما نعتقد أو كما نستعذب الاعتقاد «سبباً» لتخلفنا، بل السبب الحقيقي الذي أفضى الى هذه النتيجة في شتى مظاهرها وتجلياتها هو منظومتنا الثقافية والاجتماعية. ففي هذه المنظومة وليس في غيرها علينا البحث عن الأسباب الحقيقية والعميقة لواقع التخلف الذي أنتج ظاهرة الاستبداد. سنكتشف أنها مجموعة أسباب ثقافية واجتماعية، منها الموروث (من عادات وأعراف وتقاليد) ومنها المكتسب (من صفات سلوكية مثل الخوف والنفاق). منها النفسي والاقتصادي، ومنها الفردي والعائلي. ولنتساءل هل يمكن أن يلازم الاستبداد أمة على مدى هذا الزمن الطويل والممتد عبر القرون ما لم تكن ذات ثقافة تمهد لهذا الاستبداد وتتعايش معه وتهيئ له التمكين والاستمرار؟ إن ثقافتنا التعليمية والأسرية والاجتماعية والدينية هي ثقافة لم تتصالح بعد بما فيه الكفاية مع قيم الديموقراطية والحرية، وما زالت تخشى من تحمّل تبعاتها. فما زال الملمح الأساسي في ثقافتنا هو غياب قيم الحوار والتسامح وإنكار التنوع ورفض الرأي الآخر ومخاصمة المنهج العلمي وربما الخوف منه أحياناً! وما يحدث في فلسطين والعراق والسودان وأماكن أخرى نموذج لذلك. وبعض من خطابنا الديني والفتاوى الدينية يكشف عن تراجع قيمة الاستنارة التي صنعت العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فكيف يمكن لثقافة كهذه أن تنتج نظماً ديموقراطية أو تضمن استمرارها فيما لو وجدت في لحظة خاطفة؟ لعلّنا نحتاج لمواصلة التساؤل مهما كان مراً ومحبطاً: من أين أتت نخب الحكم العربية وكيف تكونت ثقافتها؟ لقد تلقت التعليم في مدارسنا وجامعاتنا وتربت في منازلنا واكتسبت عاداتنا وأعرافنا واستمعت الى خطب الجمعة في مساجدنا. ففيمَ الدهشة إذاً كما لو كانت هذه النخب قد هبطت علينا من كوكب مجهول! إننا ننسى أو نتجاهل أن بذور الاستبداد تتسلل أحياناً من نظمنا التعليمية التي تكرّس السلبية والتبعية ولا تشجع على التفكير النقدي الحر، وأنه في الكثير من دوواين الإدارة لدينا يقبع مستبدون صغار يتلذذون بتعذيب الناس، وأن فلسفتنا الأسرية والتربوية ما زالت تخشى من قيم الحرية، وأن فهمنا الديني لم يحسم بعد موقفه من قيم التطور والحداثة تحت ذرائع شتى. كلها نظم وأنساق ومفاهيم غير متصالحة بعد مع القيم الديموقراطية. ولنبحث في أمثالنا الشعبية الزاخرة بالبلاغة والحكمة لنكتشف أن مأزقنا الوجودي ما زال في جوهره ثقافياً وذهنياً قبل أن يكون سياسياً سلطوياً. 3 - ما زال الافق مفتوحاً واقعنا الثقافي والاجتماعي على رغم صعوبته ليس حتمية تاريخية من ناحية، ولا يمكن اعتباره نسقاً عاماً يبرر إطلاق الأحكام وتعميمها من ناحية أخرى. فمن ناحية أولى هذا الواقع الثقافي والاجتماعي ليس حتمية تاريخية لأن التطور ناموس من نواميس الحياة. ومآلنا طال الزمن أم قصر هو اللحاق بقيم التقدم والحداثة وعلى رأسها الديموقراطية. لكن سيظل السؤال هو بعد كم من السنين يمكن أن يتحقق ذلك؟ الرهانات عديدة والأفق ما يزال مفتوحاً. قد يكون الرهان هو الانفتاح أكثر فأكثر على الآخر المتقدم، وهو أمر ليس عيباً فكل الثقافات الإنسانية مارست التأثير والتأثر فيما بينها ونحن كنا يوماً في موقع التأثير. ولعلّ هذا الانفتاح على الآخر المتقدم حاصل بالفعل بدليل أن معظم القوى الإصلاحية العربية سواء في السلطة أو خارجها هي قوى أتيح لها هذا الانفتاح. إن دولاً إسلامية مثل تركيا وماليزيا وبل وإيران الأصولية نفسها لم تعرف تداول السلطة بدرجات متفاوتة في ما بينها من دون انفتاح على الآخر المتقدم ومحاولة محاكاته. من المؤكد أن لحركة العولمة تأثيرها الذي لا يمكن إنكاره وهي تمارس في سطوة ودأب نشر قيم التقدم والحداثة بما فيها الديموقراطية، لا سيما مع ما توفره ثورة الاتصالات والمواصلات من إمكانات. لكن نجاح العولمة في دفع تيار دمقرطة المجتمع العربي مشروط بإثبات صدقيتها وقدرتها على أنسنة قيم التقدم والحداثة وتحييد نزعة «عسكرتها» وترويض أطماعها الامبراطورية. وقد يكون الرهان أخيراً معقوداً على حركة إصلاح عربي داخلي. وهو الرهان الذي نحلم به ليس فقط لأن تكلفته السياسية والاجتماعية هي الأقل مقارنة برهانات الخارج ولكن أيضاً لأنه يرضي غرورنا الوطني والقومي لنثبت ولو لمرة أن هذه الأمة قادرة على إعادة اكتشاف ذاتها. وبقدر ما أن واقعنا الثقافي والاجتماعي، في ضعفه وسلبياته، ليس حتمية تاريخية فإن هذا الواقع لا يبرر من ناحية ثانية إطلاق الأحكام وتعميمها. فما زالت قوى الاستنارة والنضال موجودة في لحمة المجتمع العربي جنباً الى جنب مع قوى التخلف والانتهازية! ولعلّ التحدي الأكبر الذي يقع على عاتق قوى الاستنارة والنضال في مجتمعاتنا هو كيفية نقل مهمة التغيير الثقافي والاجتماعي من دوائر النخبة الضيقة الى عموم الناس في كل مكان. فما زالت سمة المجتمع المصري، وربما جزء من أزمته، أنه يمتلك نخبة واعية ذكية لا تقل عن نخب أكثر المجتمعات تقدماً لكنها نخبة محبطة منكفئة على نفسها منعزلة عن الناس أياً تكن أسباب الإحباط والانكفاء والعزلة. تحتاج النخبة المستنيرة في مصر لأن تكون أكثر إقداماً. نريد أكاديميين ينهضون برسالتهم الفكرية والتنويرية من خلال التواصل مع طلابهم، ومدرسين يغرسون قيم الانتماء والوطنية مبكراً في نفوس الصغار. نريد خطباء مساجد لا يكلون ولا يملون من الحديث عن قيم العقل والتقدم والتسامح والاجتهاد في فقه المعاملات في تراثنا قدر ما يعيدون ويزيدون في فقه العبادات. نريد مؤسسات مجتمع أهلي تفكر ولو لمرة في انفاق ما تحصل عليه من معونات أجنبية في مشروعات لمحو أمية الملايين مثلما تنفق هذه الأموال على دورات حقوق الإنسان التي على رغم أهميتها لا يحضرها أحياناً سوى العشرات. نريد من النخبة التي تحيط بالساسة وصنّاع القرار أن تغلّب بصيرتها الوطنية على حدة بصرها السياسي وأن تكون جسراً لا فجوة بين الحكام والشعب! نريد أن نغير الأسباب حتى تتغير النتائج! * أكاديمي مصري.