بمقدار الشعور بالأمل مع الأيام الأولى لثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا الإحساس بالقلق الذي نشعر به الآن! ولا أدعي أن ثورات الربيع العربي قد انتكست ولكننا ندرك حجم الأخطار التي تحيط بالدول العربية التي شهدت ربيعها ثم بدأت تدخل خريفاً جافاً أفرزت فيه الشعوب أبخرة المعاناة التي شهدتها عبر العقود التي مضت، وقد اكتشفنا حال التجريف التي حدثت للكفاءات الفكرية وأصحاب الخبرات السياسية فوجدنا أن مجتمعات عربية كثيرة العدد أصبحت خالية الوفاض ضعيفة التأثير مستسلمةً لفصائل تفرض نفسها على فكر الناس وعقولهم وتحتكر فهم دينهم، وإذا أخذنا النموذجين اللذين بدأت بهما شهور الربيع العربي وهما النموذج التونسي الرائد ثم النموذج المصري المؤثر نجد أنه على رغم التفاوت بينهما في الحجم السكاني وتنوّع طبيعة المشكلات القائمة في كل منهما إلا أننا نزعم التشابه الكبير بين طبيعة الحكم البوليسي في كل منهما قبل ثورته، فضلاً عن التقارب بين شخصيتي بن علي وحسني مبارك. ولقد أتاحت لي زيارة إلى تونس منذ أيام قليلة أن أشهد عن قرب مسيرة ذلك الشعب المتحضر الذي يمزج بين العروبة وروح المتوسط مع نكهة أفريقية تعطيه مذاقاً فريداً بين باقي الدول العربية، إذ إن لدى تونس مجتمعاً مدنياً متحضراً جرى تكوينه مبكراً منذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، إضافة إلى طبقة مثقفة مؤثرة وبلدٍ لا بد أن يكون منفتحاً بطبيعته، وطوال الأيام التي قضيتها في تونس كانت المقارنة بين الحالين المصرية والتونسية حاضرة في ذهني على الدوام، وأستطيع أن أدعي أن ظروف الحال المصرية أكثر تعقيداً وأشد صعوبة لا من حيث الحجم فقط ولكن من حيث النوعية أيضاً، ولعلي أطرح هنا الملاحظات الآتية: أولاً: تتميز تونس مثل بعض دول الشمال الأفريقي بالانفتاح على الغرب وخصوصاً فرنسا بلد الاحتلال السابق، وتتميز بالقرب من أوروبا وتتأثر بها وتتفاعل معها، وقد انعكس ذلك إيجابياً على الشخصية التونسية التي تبدو سبيكة لتداخل حضارات قديمة تجسد في مجموعها ثقافة المتوسط، ولا شك في أن الانفتاح التونسي على الغرب وشيوع استخدام اللغة الفرنسية قد جعلا الإسلام قومية قبل أن يكون ديانة، ولعلنا نتذكر أن الثورة الجزائرية المجاورة كانت هي الأخرى تعبيراً عن الهوية الإسلامية أمام حركة «الفرنسة» وسياسة «الاستيعاب» التي اتخذتها فرنسا سبيلاً للسيطرة الثقافية ومناهضة التعريب. ثانياً: إن المدرسة الإسلامية في تونس والتي تعتبر «جامعة الزيتونة» رمزها التاريخي هي مدرسة تتميز بالاعتدال النسبي، ولقد صدق الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل عندما أجرى مقارنة بين «الأزهر» في مصر و «الزيتونة» في تونس واحتكاك الأخيرة بالوجود الأجنبي بينما ظل «الأزهر» تاريخياً متمسكاً بمقدار من التشدد والرغبة في تجسيد الهوية الإسلامية على فطرتها، ولقد تميز علماء تونس الكبار من أمثال بن عاشور وغيره بالاعتدال والانفتاح والرغبة في التواصل مع الأطراف كافة، كما لم تعرف «الزيتونة» تياراتٍ متعصبة عبر تاريخها الطويل، لأنها الأقدم من «الأزهر» والأكثر هدوءاً وبعداً عن الأضواء، ولعل عالماً من طراز الخضر حسين التونسي الذي أصبح شيخاً للجامع الأزهر مع بداية الثورة هو تجسيد للعلاقة التاريخية بين القلعتين الإسلاميتين في كل من تونس ومصر. ثالثاً: إن المدرسة الإسلامية في مصر بتعدد فروعها وتشعب روافدها قد ورثت في بعض المراحل روح التزمّت خصوصاً في العصور الظلامية تحت حكم المماليك والأتراك، لذلك انطلقت منها إشارات روحية وثقافية مهدت لظهور الإسلام السياسي المعاصر على يد الإمام الراحل حسن البنا، لذلك فإن الإرهاصات الأولى لتسييس الدين تبدو ضاربة بجذورها في مصر بينما يبدو الأمر مختلفاً في تونس، فلقد ربط علماء تونس بين الإسلام وحركة التعريب في جانب وبين الإسلام والوطنية التونسية في جانب آخر، إذ إن كل مسيحي في تونس هو بالقطع من أصول أجنبية بينما قد لا ينسحب الأمر على الأقلية اليهودية خصوصاً في منطقة جربة، كما أن مصر على الجانب الآخر وفدت عليها تيارات مشرقية أثرت في شخصيتها الإسلامية بينما هبت الرياح الأوروبية على الواقع التونسي لتلامس قرطاج بل والساحل التونسي كله. رابعاً: إن درجة الاحتقان السياسي في مصر تفوق نظيرتها في تونس حيث تراكم الإحباطات السياسية وشيوع الفساد وتواصل الاستبداد تبدو كلها أكثر تأثيراً في مصر بحكم تاريخها والهجرات السكانية التي هبطت عليها إلى جانب وجود ما يقرب من ثمانية ملايين مسيحي فيها وهو أمر لا تعرفه تونس ولا تتأثر بوجوده، كما أن ما يمكن أن نطلق عليه «الثقافة الفرعونية» هو جزء أصيل من التركيبة المصرية بما لها وما عليها، أما الأشقاء في تونس فالأعباء التاريخية أقل كما أن تراكم المظالم لا يبدو بالدرجة نفسها كما في الحال المصرية. خامساً: إن «وثيقة الأزهر الشريف» التي صدرت منذ شهور قليلة تفتح نافذة جديدة نحو فهم صحيح للإسلام واحترامٍ الآخر، وتعايش مشترك مع الغير، بل إن الأزهر الشريف وإمامه الحالي المستنير قد أتبع تلك الوثيقة المهمة بوثائق أخرى فرعية يتصل بعضها بالحريات العامة وإطلاق الإبداع واحترام الفنون والآداب، ثم وثيقة فرعية أخرى تدور حول «ثورات الربيع العربي» ومشروعية التمرد على الفساد والاستبداد، ثم اختتم الأزهر تلك المجموعة بوثيقة أخيرة حول «المرأة وحقوقها». ويجب أن نعترف هنا بأن الاعتزاز الديني والانفتاح العقائدي في تونس يسبق نظيره المصري، وما زلت أتذكر ما سمعته من الشيخ راشد الغنوشي عندما قال إن حركة «النهضة» وافقت على قانون بورقيبة لمنع تعدد الزوجات، ولو أن شيئاً من ذلك جرى طرحه في مصر لقامت الدنيا ولم تقعد، وذلك هو الفارق الجوهري بين التجربتين التونسية والمصرية إذ إن فكر «الإخوان المسلمين» والجماعات السلفية في مصر يبدو شديد الاختلاف عن حركة «النهضة» في تونس مع الأخذ في الاعتبار أن الوجود السلفي في الأخيرة لا يقارن بمثيله في مصر، وهذه ملاحظة مهمة لأن ثورتي الربيع العربي في مصر وتونس تخضعان لظروف مختلفة وأحوال متباينة، ولقد بهرني اعتدال الشيخ الغنوشي وجماعته خصوصاً عندما يقول إنه «يسعى لحماية الدين من السياسة» كما أن المقولة الشهيرة للرئيس التونسي منصف المرزوقي والتي وافق عليها الغنوشي في لقاءٍ معه منذ أيام، هي نصٌ كاشف عن العقلية الحالية في تونس، إذ يقول: «سوف ندافع عن المرأة السافرة والمحجبة والمنتقبة بالدرجة نفسها» وتلك في ظني هي روح الإسلام وليبرالية الفكر فيه والنزعة التجديدية له. سادساً: تقف على قمة الدولة التونسية شخصية ليبرالية عصرية لمثقف متميز عرف السجون والمنافي وقضى سنواتٍ من عمره في عاصمة النور باريس شأن كثيرين من الساسة التوانسة حيث تختلط عناصر الثقافة وتتوحد اللغة وتمتزج الأفكار، لذلك فإن فهم الإسلام في تونس أكثر رحابة من سواه، خصوصاً الواقع المصري المليء بالتعصب والحافل بالمنعطفات التاريخية التي رسَّبت في الوجدان المصري كثيراً من العقد والمركبات على نحو غير معهود لدى كثير من دول المنطقة. سابعاً: تبدو الضغوط الأجنبية على مصر وربيعها العربي أكثر من نظيرتها في الحال التونسية، فمصر مستهدفة من كل اتجاه ولديها ملف عاجل في سيناء وملفات ضاغطة أخرى يأتي بعضها من الخارج، ولا شك في أن تلك الظروف الضاغطة المحيطة بثورات الربيع العربي تنعكس في شكل ملحوظ على الأداء السياسي اليومي والرغبة المستمرة في تكبيل حركة الدولة، وهو أمر يبدو أكثر وضوحاً في النموذج المصري عنه في التونسي، كما يجب ألا ننسى أن تونس دولة تتمتع بدرجة أعلى من الرقي الاجتماعي الذي حصلت في إطاره المرأة التونسية على معظم حقوقها وهو الأمر الذي لا يزال موضع جدل في الحال المصرية، وهنا لا بد أن أتطرق إلى دور بورقيبة في عصرنة المجتمع التونسي وهو أمر لم يتيسر لعبدالناصر حتى يصبح مستقراً في المجتمع المصري خصوصاً بعد رحيله! إننا أمام رياحٍ عاتية تهب على دول الربيع العربي تحاول أن تحيل ثوراتها إلى عمليات تصفية للحسابات وثأر سياسي انتقامي لا مبرر له، وسنظل نرقب المشهد العام في دول الربيع العربي مع التركيز على نموذجين تونس ومصر وحتى نستكشف ملامح المستقبل. إننا لا نريد لذلك الربيع العربي أن يتحول إلى خريفٍ جاف أو إلى شتاءٍ قارس أو إلى صيف ملتهب. * كاتب مصري