وحدها القوات الإفريقية سترتدي قناع الشرعية الدولية، وتذهب للتدخل عسكرياً في شمال مالي عسى أن تعيد لها بعضاً من الوحدة والسيادة اللتين أضاعتهما في مغامرة انقلابية فتحت أبواب جهنم أمام البلد الإفريقي المنهار. في الإعداد النفسي والسياسي، مهد مجلس الأمن لهكذا تدخل محتمل بصدور قرارات ملزمة، وضعت مهلة لدول غرب إفريقيا بهدف استكمال العدة وتشجيعها على تنفيذ مهمة ميدانية نأت بالجيوش الغربية عن نفسها بعيداً في التوغل المباشر. وهناك سوابق للقوات الإفريقية في الصومال والسودان تدفع إلى معاودة اختبار دورها طالما أنه بات صعباً على الدول الغربية أن تزج بجيوشها في مستنقعات غير محمودة العواقب. لا يتعلق الأمر بتهميش دور الجيوش الغربية بل بالحذر من الوقوع في التناقض بين التزامات الانسحاب من أفغانستان، كما العراق بالنسبة للقوات الأميركية، وبين معاودة حط الرحال في منطقة ستكون ساخنة. والظاهر أن متغيرات فرضت نفسها عبر الخطاب الأميركي الذي عبَّد الطريق أمام ولاية ثانية للرئيس باراك أوباما. فقد أوفى بتعهداته في خفض الوجود العسكري خارج الولاياتالمتحدة باستثناء المناطق الإستراتيجية، ومثله كذلك سيكون على الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أن يفكر طويلاً قبل أي مغامرة عسكرية في إفريقيا. مجرد الاتفاق على تدخل قوات إفريقية في شمال مالي استخرج شهادة الوفاة لخطة أميركية سابقة أطلق عليها «أفريكوم» كانت تقضي بقيام منظومة عسكرية أميركية-إفريقية مختصة في التدخل في القارة السمراء، في حال تعرض المصالح الأميركية والغربية لمخاطر. وكل المداد الذي سال حول الخطة لجهة البحث في إقامة قواعد أميركية في المنطقة وتنظيم تدابير ومناورات وتحديد مراكز القيادة انتهى عند الإبقاء على مجالات التعاون الأمني والعسكري. في بلدان الساحل أثير جدل حول مشروع الريادة في توجيه الأحداث والمبادرات. فقد استضافت الجزائر أكثر من اجتماع أمني وديبلوماسي وعسكري لدرس سبل مواجهة الانفلات الأمني على مشارف حدودها، عبر الامتداد الإفريقي. وتبنت الرباط في المقابل توجهاً يروم حض بلدان الاتحاد الأوروبي على القيام بشيء ملموس لتطويق مضاعفات الانفلات. فيما لاذت الدول المعنية مباشرة إلى سياسة اقتفاء الأثر. غير أن الأميركيين تنادوا في غضون ذلك إلى إجراء المزيد من المناورات العسكرية بهدف تأهيل البنيات العسكرية في دول الساحل لمواجهة التداعيات المحتملة. والحال أن الفرنسيين الذين كانوا لا يمانعون في دعم الأنظمة التي تدور في فلكهم إلى حد التدخل عسكرياً كما في تشاد إبان حربها مع ليبيا استبدلوا تلك المقاربة بتقوية آليات تدخل جيوش إفريقية. تغيرت الصورة إلى حد كبير، فخلال فترة الحرب الباردة لم تكن هناك حواجز تحول دون التدخل العسكري. حدث ذلك في شابة مرتين على الأقل، من أجل دعم نظام الرئيس موبوتو سي سيكو قبل إزالة القناع عن وجهه الدكتاتوري. وكانت بلجيكا رأس حربة في أكثر من تجربة نتيجة ارتباطات سياسية وتجارية. غير أن المفاهيم تغيرت وبات التدخل العسكري مشروعاً لإطاحة أنظمة فاسدة ومستبدة. إنها لمفارقة أن يكون حلف «الناتو» وبلدان غربية أحجموا عن التدخل في بلد إفريقي اختطفت وحدته وسيادته من طرف تنظيمات، كثيراً ما تورطت في اختطاف رهائن غربيين طلباً لفدية تمول أنشطتها وتحركاتها. فأخطر الاختطافات أن تتعرض دول بعينها إلى القرصنة، رغم كل الأعراف والقوانين الدولية، إذ يسود منطق غلبة السلاح وفرض أعراف لا علاقة لها بقيم التحرر والمساواة وصون حقوق الإنسان. الراجح أن غض الطرف عما يعرفه شمال مالي، سيدفع دولاً إفريقية صغيرة لا قدرة لها على الصمود، إلى السقوط بيد التنظيمات المتطرفة. ولولا أن أخطاء في الحساب الاستراتيجي ارتكبت في أفغانستان إبان الغزو السوفياتي وبعد انسحابه، لما تأتى لتنظيم «القاعدة» أن يفرض سطوته هناك. وإن تجرأ على ضرب الولاياتالمتحدة الأميركية في معاقلها العسكرية والاقتصادية. بل إن نفوذ «القاعدة» امتد نحو مجاهل القارة الإفريقية، ما يعني أن المخاوف من قيام أفغانستان جديدة في الساحل جنوب الصحراء أصبح لها ما يبررها. الثابت أن أي تدخل عسكري إفريقي أو غربي لم يحسم في الإشكالات الحقيقية، ذات العلاقة بالأسباب الموضوعية والجوهرية لتنامي الظاهرة الإرهابية. فالمرتع الخصب لتجذرها لا يتوقف فقط عند استشراء أفكار متشددة ومنغلقة، كثيراً ما تتدثر بلبوس إسلامي مشوش. ولكنه يزيد على ذلك من خلال وجود تطرف آخر. إنه يكمن في النظرة الاستعلائية لمشاكل دول الجنوب الغارقة في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وانسداد الآفاق. وما لم يتم البحث في إقامة نظام اقتصادي وثقافي جديدين يعاود الاعتبار إلى الشعوب المستضعفة، ويتسم بقدر من الإنصاف وحفز بوادر المساعدة في التنمية، سيبقى كل تدخل من قبيل استعراض العضلات ليس إلا. لكن ذلك لا يمنع من الإقرار أن صون وحدة وسيادة الدولة يأتي في مقدم ضمانات الانعتاق.