تعتبر المِنح الدراسية التي تقدمها الجامعات الأجنبية لبعض الخريجين العرب المتفوقين في دراساتهم، من أمثال ناصر محمود الشيمي، بمثابة إجازة مرور لاستكمال ما يطمحون إليه من علوم وتخصّصات، تعزّ في أوطانهم. حظي الشيمي، وهو كندي مصري، (مواليد القاهرة 1961)، إثر تخرجه في كلية الهندسة في جامعة عين شمس، بمنحتين دراسيتين. ساهمت إحداهما، وهي من «المعهد العالمي لعلوم الفضاء» في هولندا، في حصوله على ديبلوم دراسات عليا في نُظُم الاستشعار من بُعدRemote Sensing وصور المسح الجوي Scanning Photogrammetric. وساهمت الثانية في نيله شهادة دكتوراه من جامعة «كالغاري» في نُظُم المعلومات الجغرافية والملاحية. رياضيات الأرض بدأ الشيمي حياته الأكاديمية عام 1961، أستاذاً مساعداً في جامعة «كالغاري». وتدرّج في مراتبها الأكاديمية وصولاً إلى رتبة أستاذ دائم ثم رئيس لقسم هندسة ال «جيوماتيكس» Geomatics. وهذا المصطلح مؤلف من جزءين («جيو» Geo) بمعنى الأرض، و(«ماتيكس» Matics) وهو مشتق من الرياضيات Mathematics، ما يعني أن هندسة «جيوماتيكس» تختص بوضع معادلات في الرياضيات عما يتعلق بعلوم الأرض وطبقاتها والفضاء المحيط بها. ومهنياً، عمل الشيمي قرابة أربع سنوات في شركة «جيوفيت» Geofit الكندية للتكنولوجيا المتقدمة في صناعة الخرائط الرقمية. وأسّس في مونتريال شركة «فيزات تكنولوجي» Visat Technology المتخصّصة بتصميم منظومة متكاملة من أجهزة المركبات المتحركة وخرائطها. وفي «كالغاري»، أنشأ الشيمي شركة «تراستد بوزيشننغ» Trusted Positioning للملاحة الموثوقة للمركبات والملاحة الذاتية للأشخاص. وتضم 22 موظفاً. كذلك أنشأ مركز «تكتيرا» Tecterra للبحوث والدراسات، ويتولى فيه منصب المدير العلمي. ويعتبر هذا المركز من أشهر المؤسسات العلمية الكندية المعنية بتطبيق علم ال «جيوماتيكس» في البيئة والتنمية المستدامة، إضافة إلى دراسة البنى التحتية للمدن عن طريق نُظُم الاستشعار من بُعد وصور الأقمار الاصطناعية. تحدي الأقمار في لقاء مع «الحياة»، أوضح الشيمي أن بحوثه وتجاربه في العقدين الماضيين تمحورت حول هندسة «جيوماتيكس» وما يتعلق بها من نُظُم الاستشعار، ونُظُم رسم الخرائط المتحرّكة، والمسح التصويري الرقمي، وغيرها من التطبيقات المستخدمة في نُظُم المعلومات الجغرافية ونُظُم الملاحة المتنوّعة. وفي تلك البحوث، وحقق الشيمي إنجازات نوعية لم يكن بعضها معروفاً من قبل. ومن أهم ابتكاراته صنع نُظُم الاستشعار المتعدد («ميلتي- سنسور جيوماتكس سيستمز» Geomatics Systems Multi-sensor). ويجمع هذا الابتكار بين نُظُم الملاحة المستندة إلى «تحديد المواقع على الكوكب» («جي بي أس» GPS) المتصلة بالأقمار الاصطناعية، وبين أجهزة الملاحة الذاتية التي لا تعتمد على إشارات تلك الأقمار، بل تستند إلى نظرية العالِم إسحق نيوتن في الحركة المتّصلة بقياس سرعة الجاذبية. واستخدم الشيمي هذه الأجهزة «للتخلّص من عيوب نظام «جي بي أس» الذي يتعرض إرساله للانقطاع بسبب عدم وصول إشارات الأقمار الاصطناعية أثناء المرور في نفق أو عند عبور بعض المناطق المحاطة بالأشجار أو المباني العالية». وأشار أيضاً إلى أن تطبيقات هذه الأجهزة تشمل ملاحة الطائرات المدنية والسفن البحرية والتحركات بين المباني عبر توجيه إنذارات سريعة للمشرفين عليها في حالات مثل تقديم الإسعافات في حالات الطوارئ، أو كتعرض الحجّاج داخل الحرم في مكةالمكرمة لحالات من الإغماء، أو التدافع أثناء مباراة رياضية، أو أي تجمّع بشري مماثل. وأدخل الشيمي على أجهزة الملاحة الذاتية تقنيات متطوّرة تُعرف باسم «ميمز» MEMS، وهو مصطلح يختصر عبارة تعني «النُظُم الكهربائية- الميكانيكية الدقيقة» Micro-Electro-Mechanical Systems. وتستخدم نُظُم «ميمز» في الأجهزة الذكية لتحرّك الأفراد، كتلك المستعملة في أجهزة الهواتف الذكية والحافلات الميكانيكية كالسيارات وسيارات الإسعاف وعربات الإطفاء وغيرها، الأمر الذي يتيح معرفة أماكن الأشخاص والمركبات المتحركة بصورة دقيقة، خصوصاً في الأماكن التي لا يعمل فيها نظام «جي بي أس» بأثر من عدم وصول إشارات الأقمار الاصطناعية. كما بيّن الشيمي أن هذه الأجهزة تفيد في مجالات إنسانية واجتماعية متنوّعة، كمعرفة أماكن المرضى المصابين بأمراض خطيرة في المستشفيات، أو الاتصال بسيارات الإسعاف والشرطة وسواها. بمعنى آخر، «توفر هذه الأجهزة معرفة أماكن الناس والمركبات بسرعة فائقة، وبصورة مضمونة». خرائط الخليوي صمّم الشيمي نظاماً لخرائط الخليوي «موبايل مابينغ سيستم» Mobile Mapping System. وتستخدم تقنياته في صور مسح الأراضي، وتحديث قواعد البيانات الجغرافية بشكل انتقائي وبدقة وسرعة فائقتين. وشرح الشيمي طبيعة هذا النظام وآليات عمله بالقول انه «يجري عمليات جمع البيانات وتخزينها وتهيئتها بصورة تتلاءم مع الطرف الذي يستخدمها. ويستند النظام إلى صور وخرائط رقمية يمكن تفعيلها عبر حزمة من تطبيقات تدمج بين صور الأقمار الاصطناعية والصور الملتقطة بالكاميرا أرضياً». وأضاف: «تستخدم هذه التقنيات في مساحة الأراضي والهندسة المعمارية والتخطيط الحضري وتخطيط المشاريع العمرانية والزراعية والمرافق العامة (كهرباء، مياه، صرف صحي، شقّ طرقات...)، ومسح معالم البنى التحتية تحت الأرض. وتتميّز بانخفاض تكاليفها، وأنها تضمن السلامة العامة». وبالنسبة إلى مكافحة حرائق الغابات، ابتكر الشيمي أجهزة ملاحية متطورة تفوق فعاليتها وسرعتها ما تنجِزَه الطائرات المتخصّصة التي تحتاج إلى نُظُم رؤية متطوّرة تكشف مواقع الحريق وسحب الدخان التي ربما لا تُرى بالعين المجردة. وقال: «هذه الأجهزة الملاحية مزودة بكاميرات حرارية تمكّن هيئات المراقبة من تحديد أماكن الحريق، في سرعة قصوى ودقة متناهية، ما يساعد قوى الإطفاء على احتواء الحريق وإطفائه كلياً»، مشيراً إلى أن هذه الأجهزة يمكن أن تساعد أيضاً على تتبع التلوث البيئي الناجم عن تسرّب البترول والحؤول دون وصوله إلى الشواطئ. وتقديراً لرصيده العلمي والمهني، حظي الشيمي بأكثر من عشرين جائزة كندية ودولية منها جائزة «أستاذ متميّز» من نقابة المهندسين في ولاية «آلبرتا»، و «الريادة في التكنولوجيا المتقدّمة» التي تمنح سنوياً لعالِم مفرد، إضافة إلى جائزة مماثلة من «جمعية الملاحين الأميركيين». ويحتل الشيمي مكانة عالية في عدد من اللجان العلمية، على غرار ترؤسه اللجنة العلمية في «الهيئة الدولية للمسح التصويري والاستشعار عن بُعد»، و»الرابطة الدولية لاتحاد «جيومتريس». وساهم الشيمي أيضاً في تأسيس منتدى «موبايل مابينغ» العالمي، وترأس «الهيئة العالمية للملاحة الأميركية» لمدة سنتين. ونشر كتابين عن «نمذجة الأرض رقمياً»، و «النُظُم المايكروية المتعدّدة للاستشعار»، إضافة إلى 379 ورقة علمية في مجلات متخصّصة. وشارك في مؤتمرات دولية، إضافة إلى استمراره في العمل أستاذ كرسي كندي في جامعة «كالغاري»، وأستاذ شرف في جامعة «ناشينغ» الصينية. تعاون كندي - عربي في مجال التعاون العربي، نوّه الشيمي بتبادل البحوث والمعلومات والترابط الأكاديمي بين جامعتي «عين شمس» و «كالغاري» عن طريق توفير بعض المنح للطلاب المصريين، وتبادل المحاضرات وعقد المؤتمرات الدولية. وأشار إلى التعاون المستمر بين «أكاديمية الملاحة» (في الاسكندرية) التابعة للجامعة العربية وجامعة «كالغاري»، وبين هذه الأخيرة وجامعة «أم القرى» في المملكة العربية السعودية، لا سيما لجهة تنظيم انعقاد المؤتمر الدولي السنوي لنُظم المعلومات الجغرافية. وفي منحى شخصي ومهني، رأى الشيمي أن العودة إلى الوطن، وان بدت مستحيلة لأسباب ذاتية وموضوعية، إلا أنها تغدو واردة في حال تقنينها بمعنى استعانة الجامعات ومراكز البحوث العربية بأساتذة عرب مقيمين في الخارج، وتنظيم زيارات متكررة لهم للعمل مع زملائهم المقيمين في بلاد العرب في مشاريع علمية وإنمائية متخصصة. وأشار إلى أن هذه النظرة مستقاة من تجربة الصين التي تربط بين البحث العلمي والحوافز المادية وعالمي الصناعة والأعمال.