في صباح هدنة العيد، استيقظ سكان الأشرفية في حلب على انتشار مقاتلي «الجيش الحر» في مفاصل الحي وعلى مداخله. تمت العملية بهدوء وسلاسة، فهذا الحي الذي يقطنه خليط سكاني من الكرد والعرب لم يكن فيه أي وجود لقوات النظام أو أجهزته، وقد استوعب أعداداً كبيرة من النازحين من المناطق الساخنة بسبب عدم تعرضه لأي أعمال قتالية أو قصف مدفعي وجوي. كذلك لم يكن في معظم أنحاء الحي ظهور مسلح لمقاتلي حزب العمال الكردستاني الموجودين علناً في حي الشيخ مقصود المجاور ذي الغالبية الكردية الصريحة. لكنهم ظهروا فجأة مع دخول مقاتلي «الجيش الحر» من غير أن يؤدي ذلك إلى أي احتكاك بين الطرفين. بل وقف مسلحوهم ومسلحو «الجيش الحر» عند الدوار الأول وبين الطرفين بضعة أمتار، في وئام وسلام. بعد الظهر سقطت أول قذيفة من مدفعية النظام على القسم الغربي المواجه لثكنة طارق بن زياد الأثرية التي كان رامي مخلوف شرع في تحويلها إلى مجمع سياحي قبل اندلاع الثورة. تلتها قذائف أخرى حصدت أرواح 18 من المدنيين. ثم قتلت امرأة برصاصة قناص أمام فرن الذرة، وقتل شاب آخر بالطريقة نفسها. وبدأ النزوح من الحي وأكثره باتجاه بلدة عفرين الكردية. في صباح العيد، وقد دخلت هدنة الأخضر الابراهيمي «حيز التطبيق»، خرجت تظاهرة شعبية لأنصار حزب العمال الكردستاني ارتفعت فيها هتافات ضد «الجيش الحر» تطالب بخروجه من الحي. وأطلق مسلحو هذا الأخير النار في الهواء أولاً، ليتحول الأمر إلى تبادل إطلاق نار بين المسلحين من الطرفين، فكانت النتيجة مجزرة ثانية حصدت قتلى وجرحى من المدنيين وحزب العمال الكردستاني و «الجيش الحر»، بلغ عددهم الثلاثين. وتطور الأمر أكثر حين اختطف مسلحو الكردستاني جرحى «الجيش الحر» الذي رد باختطاف النازحين الكرد باتجاه عفرين عند حواجز حيان وإعزاز، فبلغ عددهم أكثر من مئتي شخص من المدنيين. في المساء جرت مفاوضات بين الجانبين تسربت منها أخبار مشجعة، وأصدر لواء أحرار سورية بياناً يبشر بقرب انتهاء الأزمة الخطيرة. تحدث البيان بلغة ودودة عن «أخوتنا الكرد» الذين هم «جزء أصيل من الشعب السوري». وفي اليوم التالي انسحب مقاتلو «الجيش الحر» تماماً من الأشرفية. لكن تداعيات الأحداث لم تقف عند هذا الحد، ففي اليوم الثالث للعيد هاجم مقاتلو لواء عاصفة الشمال المتمركز في بلدة إعزاز بقيادة أبو ابراهيم الداديخي، حاجزاً لمقاتلي الكردستاني عند قرية قسطل قرب كفر جنة وقضوا عليه. في تبريرهم لدخول الأشرفية قال مقاتلو لواء أحرار سورية إنهم أرادوا الهجوم على مبنى الأمن الجنائي الواقع على الطرف الآخر من الأوتوستراد الذي يفصل حي الأشرفية عن مركز المدينة. وظهرت اشاعات، اتضح في ما بعد أنها كاذبة، عن احتلالهم المبنى المحصن جيداً وتحريرهم معتقلين في داخله. أما لماذا لم يهاجموه بعد انتشارهم في حي الأشرفية، فقد برروا ذلك قائلين إن عددهم لم يكن كافياً. هذا غير منطقي. المنطقي أكثر هو استهداف ثكنة المهلب القريبة من الطرف الغربي للحي حيث تتمركز المدافع التي تقصف حي بني زيد المحرر قبل أسبوع من قبل مقاتلي «الجيش الحر». وقالوا أيضاً إنهم دخلوا الحي لإلقاء القبض على بعض الشبيحة المطلوبين. هذا أيضاً غير مفهوم، فلطالما دخلوا ليلاً إلى الحي واختطفوا شبيحة وخرجوا بأمان من غير أن يعترضهم أحد. نحن الآن على حافة اقتتال عربي – كردي بسبب قرار خاطئ من أحد تشكيلات «الجيش الحر» ورد الفعل المتوقع من جماعة حزب العمال الكردستاني. منذ الأشهر الأولى للثورة السورية بدأ مسلحو الكردستاني ينتشرون في المناطق ذات الغالبية الكردية في ريف حلب أولاً (عفرين وكوباني) وفي مدن منطقة الجزيرة ثانياً، وفي أحياء حلب ذات الثقل السكاني الكردي ثالثاً. جرى ذلك بتنسيق مكشوف مع أجهزة النظام الذي أراد من ذلك تحييد الكرد عن الثورة السورية وخلق حاجز جغرافي كردي بينه وبين تركيا، ليتفرغ هو لقمع الثورة في سائر أنحاء البلاد. ثم مع ازدياد التدخل التركي في المشكلة السورية لغير مصلحة النظام، سحب هذا بقايا وجوده الأمني من هذه المناطق، ليصبح حزب العمال الكردستاني هو السلطة الفعلية الوحيدة. وسوَّقَ الكردستاني سياسته الجديدة في مناصرة النظام بذرائع متنوعة، فقال أولاً إن الصراع الدائر هو بين العرب أنفسهم، وإن على الكرد ألا يتورطوا فيه إلى جانب أي من طرفيه. وقالوا إن هدفهم هو حماية الشعب الكردي من تداعيات الصراع، فشكلوا ما سموه لجان الحماية الشعبية التي نصبت حواجزها على مداخل البلدات والقرى والأحياء. وقاموا بتطبيق فكرة عبد الله أوجلان عن «الإدارة الذاتية» للمناطق الكردية، فانتخبوا «مجلس شعب غرب كردستان» ومجالس إدارة محلية. بيد أن عملهم لم يقتصر على الجوانب المذكورة، بل تجاوزها إلى قمع التظاهرات السلمية المناهضة لنظام الأسد في المناطق الكردية، واعتقلوا نشطاء الثورة في سجونهم السرية وقاموا بتعذيبهم. أضف إلى ذلك أنهم نفذوا اغتيالات عديدة لنشطاء كرد تحت جنح الظلام، وضيَّقوا على نشاطات الأحزاب الكردية التقليدية. كل تلك الإجراءات والممارسات، أثارت استياء الأحزاب والنشطاء وعموم المجتمع الكردي، وخلقت احتقاناً ينذر بالشر. وبالفعل ظهرت دعوات للتسلح لمواجهة الحزب الكردستاني المسلح. في هذا الإطار تشكلت أول كتيبة «للجيش الحر» من شبان كرد حصراً على تخوم منطقتي عفرين وجبل الزاوية المتجاورتين، باسم «كتيبة صلاح الدين الأيوبي» التي سيقتل منها ستة مقاتلين في معركة الأشرفية صباح العيد. يدور منذ بعض الوقت صراع خفي بين عدد من أحزاب المجلس الوطني الكردي وحزب العمال الكردستاني، من المحتمل أن معركة الأشرفية ستشكل نقطة انعطاف فيه من الخفاء إلى العلن. هذا يعني أن ما تسببت به معركة الأشرفية من نذر صراع عربي – كردي، ليس سوى أحد تجليات صراع داخلي كردي – كردي، إذا اندلع فتح جرحاً إضافياً في الجسد السوري الذي تمزقه طائرات النظام ومدافعه، وأضاف تعقيدات جديدة إلى «المسألة السورية» الحافلة بها أصلاً.