بعد 14 شهراً من العزلة، سمحت السلطات التركية لمحمد أوجلان بزيارة شقيقه عبد الله أوجلان في سجنه الانفرادي على جزيرة إيمرالي قرب إسطنبول. وجاء الإعلان عن فك عزلة الزعيم الكردي الأسير على لسان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، في حوار تلفزيوني أجري معه عشية انعقاد المؤتمر العام لحزب العدالة والتنمية الحاكم. صدرت عن الزعيمين تصريحات مفاجئة قد تشكل مفاتيح المرحلة المقبلة في تركيا والمنطقة، ففي حين أبدى أردوغان استعداد حكومته للتفاوض مع عبد الله أوجلان بهدف وقف العنف، نقل عن هذا الأخير استعداده لبذل كل ما في وسعه لوقف نزيف الدم الكردي والتركي. وأضاف زعيم الحزب الكردستاني مندداً بهجمات مقاتلي حزبه في الشهور الأخيرة، فوصفها ب «اللامسؤولة». يذكر أن الأشهر الأخيرة شهدت هجمات كبيرة لحزب العمال الكردستاني، قتل فيها الكثير من الجنود والضباط في الجيش التركي. ودقت الحكومة والمعارضة طبول الحرب، فعادت أجواء التوتر الشديد تسود البلاد والرأي العام، بعد مرحلة من الأمل شكلتها مفاوضات أوسلو بين الجانبين بين 2008-2011. ونحت حكومة أردوغان في الفترة الماضية منحى قمعياً متشدداً إزاء الحركة السياسية الكردية، فشنت حملات اعتقال لنواب وصحافيين ورجال أعمال وناشطين كرد بدعوى مساندتهم حزب العمال الكردستاني، بلغت حصيلتها أكثر من ثمانية آلاف معتقل. وفي الوقت الذي أعلنت فيه هيئة أركان الجيش خطة ل «تطهير» مناطق جنوب شرق الأناضول من مسلحي الحزب الكردستاني، فاجأ أردوغان الرأي العام المحلي والعالمي باستعداده للتفاوض مع زعيم الحزب الكردستاني. وإذا كان أوجلان قد رد على التحية بأحسن منها، فقد فعل ذلك في الواقع قبل ظهور أردوغان التلفزيوني بأسبوع كامل، بمناسبة الزيارة التي تلقاها من أخيه محمد. لا نغامر إذا افترضنا أن اتفاقاً جرى بين الطرفين بحيث يتم تأجيل الكشف عن تصريحات أوجلان إلى ما بعد تصريحات نظيره التركي، الأمر الذي يعني أن المفاوضات التي أعلن أردوغان استعداده لخوضها إنما بدأت بالفعل قبل حين. ماذا يعني ذلك؟ هل نام أردوغان ذات ليلة، فاستيقظ على حلم السلام، فقرر أنه آن الأوان للانتقال من الحرب إلى الحلول السلمية؟ وهل قرر أوجلان، بعد 14 شهراً من العزلة، أن يتخلى عن العنف لصالح المفاوضات السلمية؟ أظن أنه لا يمكن تفسير الانعطافة الجديدة بعوامل داخلية بحتة، وإن كان الوقت يضيق أمام أردوغان قبل حلول استحقاق الانتخابات الرئاسية في العام 2014 التي يطمح إلى الفوز بها كمكافأة في نهاية حياته السياسية. ودون طموحه هذا، الوضع المعقد الذي دخلت فيه تركيا بسبب سياسات الحكومة الداخلية والخارجية. انتقل أردوغان بصورة مفاجئة وحادة من حليف للنظام السوري إلى خصمه الأول، فحكومته تحتضن المعارضة السورية بجناحيها السياسي والعسكري، وقدمت مأوى للفارين من وجه الموت من المدن والبلدات السورية، وشكلت غرفة عمليات مشتركة على أراضيها للأنظمة المناوئة لنظام دمشق ومكتباً للارتباط مع الإدارة الأميركية بشأن ما يحدث في سورية. رد نظام دمشق على ذلك بلعب الورقة الكردية على أوجه عدة، فقد انسحب من المناطق المتاخمة للحدود المشتركة مع تركيا حيث غالبية سكانية كردية، لصالح مقاتلي حزب الاتحاد الديموقراطي الذي ليس غير الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني. وشجع هذا الأخير على تصعيد عملياته العسكرية ضد الجيش التركي. وقام بإسقاط طائرة استطلاع تركية، في رسالة روسية واضحة إلى أنقرة تتوعد بالمزيد رداً على الدعم التركي للمعارضة السورية. وهكذا وجد أردوغان نفسه في ورطة كبيرة بعدما تصاعدت المعارضة الداخلية لتدخله في الشأن السوري. ضمت هذه المعارضة أطرافاً متنافرة جمعها الخصم المشترك: حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية والعلويين والكرد وحزب العمال الكردستاني واليسار الماركسي جميعاً. إذا أراد أردوغان أن يواصل موقفه المناوئ لنظام دمشق والداعم للمعارضة السورية، عليه أن يواجه تحديات صعبة جداً في الداخل، أهمها تصاعد العنف بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، في ما يشبه السباق مع العنف السائد في سورية. ترى هل هي الحسابات السياسية الداخلية لأردوغان الطامح إلى إنهاء حياته السياسية على كرسي الرئاسة، أم أن حليفه الأميركي أوحى إليه بتحرير يديه من أغلال مشكلته الكردية في الداخل ليكون في وسعه التفرغ لاستحقاقات الثورة السورية التي أينع قطاف ثمراتها؟ من جهة أخرى: كيف ستنعكس انعطافة أوجلان الحادة من الحرب إلى المفاوضات، على سياسة الفرع السوري لحزبه في المناطق الكردية إزاء كل من الثورة والنظام في سورية؟ لن يفاجأ أحد إذا نقل الفرع المذكور سلاحه من كتف إلى كتف، وقطع ما بينه وبين النظام من علاقة، لصالح التعاون التام مع الجيش السوري الحر. والأرضية السياسية موجودة وجاهزة لهذه الانعطافة في اتفاق هولير الذي تم برعاية مسعود بارزاني بين الفرع السوري والمجلس الوطني الكردي في سورية. ألم تقصف طائرة ميغ سورية مبنى سكنياً في حي الشيخ مقصود في مدينة حلب قبل حين، وقتل فيه أكثر من ثلاثين من الكرد؟ ألم يرد مسلحو الحزب الكردستاني على هذا الهجوم بطرد عناصر أجهزة المخابرات من مقراتهم في بلدة عفرين الكردية شمال حلب والاستيلاء على تلك المقرات التي كانوا يحمونها قبل ذلك؟ ألم تقصف طائرة حربية سورية سيارة لنقل الركاب بين حلب وعفرين غداة الرد المدفعي التركي على قصف انصار الأسد بلدة آكجة قلعة الحدودية التركية، فقتل من ركابها الكرد ثلاثة وجرح الآخرون؟ لعلها مؤشرات مبكرة على الانعطافة التي يتوقع النظام أن يقوم بها الحزب الكردستاني في المرحلة المقبلة.