منذ اغتيال اللواء وسام الحسن، وأياً كان منفذه، دخل المشهد السياسي اللبناني عتبة تجاذب جديدة بين اعادة النظر وبين الامعان في نظام الحرب الاهلية المُضمَرَة الذي أرساه حزب الله وتحالفه الأسدي-الإيراني في أعقاب 7 ايار (مايو) 2008 والقائم على الابتزاز المُسلح بالحرب الاهلية واعتياد خطاب وممارسات حافة الهاوية. فالاغتيال يشكل بذاته علامة فاقعة في محاولة منع اعادة النظر المذكورة التي اعتُبِرَ التجرؤ على توقيف ميشال سماحة وتغطيته رسمياً من رئيسي الجمهورية والحكومة ذروتها. كما انه يتم في سياق اعتماد النظام السوري بتنسيق مع حليفيه الإيراني والروسي خط الحرب الشاملة على الثورة السورية والمدنيين وتوقف حزب الله عن إنكار مشاركته مُدلياً بالدفاع عن أهلٍ لبنانيين محازبين في أرضٍ سورية. وبدا ان رد فريق 14 آذار يركز على مواجهة حملة المنع الدامية بشعار تغيير الحكومة بعد تحميلها مسؤولية الاغتيال كحكومة منعت الداتا عن الأجهزة الأمنية وتشكلت أساساً كنتاجٍ لنظام الحرب الاهلية المُضمَرَة. وبصرف النظرِ عن فكرة مخاوف الغرب وبعض القوى السياسية «الوسطية» من الفراغ وبالأحرى من استثارة حزب الله ودفعه لاستعجال استخدام فائض قوته العسكرية في صراع سنّي-شيعي مفتوح كان تفجيره بين الأهداف الكثيرة للاغتيال، وعن أخطاء 14 آذار قبل وأثناء وبعد تشييع اللواء الحسن على مستويَيْ الخطاب السياسي والتنظيم والذين شرعوا لرئيس الحكومة الانتقال من نصف استقالة مطاطة إلى طيِّها واستئناف نشاطه الحكومي، فإنه سيصعب لاحقاً تفادي البحث بالتغيير الوزاري كعنوانٍ مرشح ليغدو مشجباً لديناميات المواجهة والتسويات الأقل احتمالاً. الأمر الذي سيصطدم حتماً بموقف حزب الله سواء أصَّر على رفض التغيير بما يترتب على ذلك من تلويح بالعنف او وافق بأثمانٍ ليس واضحاً حجمها. فحزب الله ليس طرفاً سياسياً عادياً في لبنان كمجرد حزب يقدم نفسه قائداً مركزياً لطائفة ديناميكية يدفعها لاعتناق هوى الغلبة السياسية. كما انه ليس مجرد تنظيم عسكري امني كلاسيكي النمط لدولة عادية أو مجموعات منظمة على الطريقة العنقودية اللينينية ولا مجرد حزب من النمط الكاريزمي الذي صار اليه جزئياً بعد التألق الاعلامي المضاف الى قائده... فهو ذلك كله. وبالتالي فإن خصومه مدعوون لمواجهة الميزات المتراصفة لجسم مُدار مركزياً من منطلقٍ عقيديٍ في المذهبي ومحاط بتعددية شكلية كغطاء سياسي دستوري ومتمتع بتنظيم عسكري تماميّ الانضباط وميليشيا واسعة وتمويل هام وحصة وازنة في مؤسسات وبيروقراطية الدولة وما تؤمنه من وسائل ضبط وهيمنة خصوصية، اضافة الى اندماجه عضوياً في جبهة إقليمية تنسِّق وتعمل مع قوة دولية مركزية «ثأرية» تمثلها روسيا ضمن ما صار يسمى بالكتلة الشرقيةالجديدة. في المقابل، فإن الخصم ال 14 آذاري لا يملك سوى حصة في بيروقراطية الدولة وشعبية عابرة للطوائف نسبياً في أصولها تتقاطع مع اقتراحه حفظ النظام الطوائفي «التكافؤي» والتحاصصية وتقاليده الليبرالية الثقافية والاعلامية والنيوليبرالية الاقتصادية وسياسة خارجية تحييدية عن العنف الاقليمي وتداعياته الداخلية... وغالبيتها عناصر تتصادم جذرياً مع مشروع حزب الله محلياً وإقليمياً، في حين ان أدوات فرقائها العسكرية ضعيفة و/أو بدائية وأن التحالف الإقليمي الدولي الداعم لها واسع لكنه فضفاض وارتباطها به غير مُستدْخَل عضوياً في حساباته. ذلك جعل الطرف الاول في حالة هجومية دائمة اختار حتى الآن استخدامها في قضم تدريجي للسلطة وتفريغ تصاعدي لجوهر الدولة كبنية عمومية بحيث أصبحت هنالك دولة شكلية واهنة هي الدولة الرسمية وأخرى فعلية وفعَّالة هي تلك التي يمثلها حزب الله. في هذه اللوحة تبدو الحظوظ الداخلية لقوى 14 آذار بالربح ضعيفة اذا ما استمرت في خطها ووضعها الحاليين المتميزّيْن بغياب الاستراتيجية والتماسك. وهذا ما عبّر عنه ربحها الانتخابات التشريعية دورتين متتاليتين وتشكيلها حكومات عدة من دون ان يؤدي ذلك الى تمتعها بالقدرة على الحكم ولا البقاء على رأس الحكومة الأخيرة التي ترأسها السيد سعد الحريري... كما عبَّرت عنه المكاسب التي استطاع حزب الله الحصول عليها عبر هجمة 7 ايار والتي تمت في ظل حكومة تتمتع فيها بغالبية واضحة. فمن خلال اجتياح بيروت من دون مقاومة تذكر وتهديد الجبل والتلويح بانفجارٍ أهلي شامل تراجعت أمامه في اتفاق الدوحة الذي تصرفَّت تطميناً لنفسها ولأنصارها كما لو أنه نص على تنازلات والتزامات متبادلة كمثل بند الالتزام بعدم استخدام السلاح في الداخل والذي تبين في تجربة القمصان السود انه محض اعتقاد ذاتي طالما أن نسبة القوى الاجمالية بعناصرها المختلفة لا تدعم تطبيقه. وبهذا المعنى فقد تسترت قوى 14 آذار على ما كان يُفتَرَض بحزب الله نفسه أن يتستَّر عليه بهدف استكمال هيمنة مستقرة وغير مُنازعٍ فيها تكون إيذاناً ببدء نظام «جديد» خارج معادلات اتفاق الطائف التي كانت الوصاية الأسدية قد طبقتها انتقائياً وعيَّنت حدوداً للحزب ضمنها سرعان ما تجاوزها بعد التحالف الرباعي ثم حرب تموز. وهو تستر يخفي ميلاً إلى اعتماد الحسابات التكتيكية كأساس للحكم من دون النظر إلى المفاتيح الحقيقية للسلطة وبغياب تصورٍ اجمالي لتجديدٍ ديموقراطي في الدولة. الإشكالية، انه لا يمكن مرحلياً الحكم من دون حزب الله، ولا يمكن الحكم معه، ومصدر ذلك ليس السلاح بل انضمام طائفة لبنانية أساسية إليه بسبب الترسيمة الطوائفية للصراع على السلطة أساساً. وبالتالي فإن امام 14 آذار أن تسعى إلى تبديل موازين القوى الداخلية استناداً إلى ديناميات تجاوُز الاستقطابات الاهلية عبر تعديل مشروعها وتجديده وأن تستثمر في هذا السياق نقاط قوتها وأهمها شعبيتها وتعدديتها النسبيتان واستخدام الآثار الجانبية لفائض قوة «حزب الله»... فيما قوى 14 آذار تفعل العكس إذ تتراوح بين تيارين: الأول ينتظر «بهدوء» تحوّل ترنح النظام الأسدي إلى سقوطٍ نهائي والثاني يتصرَّف كما لو أن السقوط قد حدث. وتحولت الأمانة العامة لمجرد غطاء لقرار يصدر خارجها وتهيمن عليه قوى طوائفية نيوليبرالية يصعب ان تضم شيعة وشرائح شعبية من الطوائف الأخرى إلى مشروعها.