قُبيْل الموعد المُحدَّد للدورة الجديدة من «الحوار الوطني» التي دعا الرئيس ميشال سليمان إلى عقد أولى جلساتها في موعدٍ مبدئي قابل للتأجيل هو الحادي عشر من هذا الشهر، بدا كأنه تحت هذا العنوان تارةً وبغيره تارة أخرى تُخاض بين أطرافه الرئيسين نزالات تجعله لحظة توتير سياسي مكثفة تُضاف إلى الأسباب الأخرى لاحتدام الوضع في لبنان. ويستنتج اللبنانيون بذلك أن عنواناً «محايداً» و «جامعاً» و «مهدِّئاً» كالحوار غدا بدوره يُعامَل كمجرَّد شعار فئوي موقت و/أو كمُجرَّد أداة تدخلية عارية في تعديل ميزان القوى، وليس كمنهجٍ وآلية هدفهما تظهير وإنضاج شروط تسوية يقرها ممثلو أطرافٍ تشترك وبعد مراجعات ضمنية أو علنية لتجاربها في قبول مبدأ التوصل إلى إجماعات وطنية تُطبَّق سلمياً. ولعَّل أقوى المفاجآت التحضيرية للحوار العتيد، جاء من خلال اقتراح الأمين العام ل «حزب الله» في ذكرى رحيل السيد الخميني الدعوة إلى «مؤتمر وطني تأسيسي» يتجاوز طاولة الحوار وجدول أعمالها المتمحور حول موضوع «الاستراتيجية الوطنية الدفاعية» الذي يشمل معالجة موضوع السلاح من ثلاثة جوانب: الأول سلاح المقاومة وكيفية الاستفادة منه إيجاباً «للدفاع عن لبنان» والإجابة عن أسئلة لماذا ومتى وكيف وأين يُستعمَل؟». والثاني، إنهاء السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وكيفية معالجته داخلها تنفيذاً لمقررات مؤتمر الحوار الوطني، والثالث «نزع السلاح المنتشر داخل المدن وخارجها». بدا الاقتراح موحياً باحتمالات متعددة. فهو من جهة تراجعٌ مُضمَر عن إعلان السيد حسن نصرالله في خطاب ذكرى التحرير (25 أيار- مايو) القبول غير المشروط بالحوار والتفافٌ عليه ومحاولة لتعديل جدول أعماله وبنده الاول خصوصاً. فطريقة طرحه «التقنية» الملتبسة يمكنها أن تحرج «حزب الله» بانطلاقها ضمناً من ضرورة توافر الجدوى في استعمال سلاحه ومن عدم وجود تسليم اوتوماتيكي ب «الاستفادة منه إيجاباً». وهو من جهة ثانية كشفٌ لاعتراض أصلي للحزب على اتفاق الطائف، وتأكيدٌ على مطالبةٍ جادة بتعديله وهو ما كان مُتهَماً بإضماره من دون دليلٍ قطعي. ولم يبخل السيد حسن نصرالله في شرحه بإعطاء القرائن عليه. فهو وضع المؤتمر في سياق قوامه أن نقاشاً جدياً يجب أن يبدأ من سؤال «كيف نبني دولة حقيقية وقوية في لبنان»، بعد نقد عدم وجودها بالمرَّة حتى قبل الحروب المتتالية. واعتبر أن المفاوضات السابقة بين اللبنانيين (ومنها التي أدّت إلى اتفاق الطائف) كانت تتم «تحت قصف المدافع والجثث مقطعة والناس مشردون»... مما يوحي باحتوائها قدراً من الإكراه المُبطِل قانوناً للرضا، بينما اليوم «وضعنا الأمني معقول نسبياً». ولتعميق الطابع النافي لتوافقات سابقة، أضاف اقتراحاً بانتخاب أعضاء المؤتمر - قد يكون مجلس خبراء - ف «هناك أناس في لبنان عندما تتحدث عن دولة قوية وفاعلة» يقولون بتنفيذ اتفاق الطائف، وآخرون بتطويره وثالثون بالتوافق على عقد اجتماعي جديد، ورابعون بإلغاء الطائفية السياسية، وغيرهم بالعلمنة الكاملة. ما يعني تحويل التوافقات السابقة إلى واحدة من وجهات النظر المتعددة فحسب. وهو من جهة ثالثة عرضٌ أول من الحزب لشروط تسوية قد يقبلها. وهذا شكل ايجابي بذاته بصفته دخولاً في الموضوع، من دون أن يعني ذلك قبولاً لأن آثار القبول قد تكون أسوأ من استمرار وضعٍ لا يعطي سلاح الحزب وهيمنته سوى شرعنة جزئية متنازع فيها. ومن الشروط غير المقبولة مثلاً حصر الدفاع عن الحدود بالحزب وتخصيص الجيش والقوى العسكرية بالأمن «الداخلي» وحده. ومن الجلي ان اقتراح مؤتمر تأسيسي وطني زاد في حذر تجمع 14 آذار وقوتيْه الأساسيتين «المستقبل» و «القوات اللبنانية» إزاء دعوة الحوار الرئاسية وذلك لسببين مُعلنَيْن: الأول هو الحصيلة العملية الرثة لتجارب الحوار السابقة بما أظهرته من عجزٍ سياسي مُنظم عن معالجة ما تعتبره هذه القوى المُعوق الرئيسي لقيام الدولة، أي استقلال سلاح «حزب الله» وتصرفه عن الشرعية و «الكيان»، ومن تسبب وزنه السياسي الترهيبي بذاته وبتشبيكه مع حلفائه الاقليميين في عدم تطبيق القرارات القليلة التي صدرت بالإجماع عن الحوارات السابقة، كتلك المتصلة بالسلاح الفلسطيني خارج المخيمات وتنظيمه داخلها. والسبب الثاني، استخدام الحوار من جانب «حزب الله» وحلفائه طيلة سنوات وعلى حلقات كغطاء سياسي بامتياز لضرب ما حققته الحركة الاستقلالية عبر انسحاب عسكر النظام الأسدي، ونجاحها النسبي في دورتين انتخابيتين متتاليتين وإنشاء المحكمة الدولية الخاصة... بحيث بدا الحوار قبل حرب تموز وبعدها ثم بعد اجتياح السابع من ايار (مايو) 2008 وسيلة لتطبيع استخدام السلاح على الحدود ثم في الداخل والانقلاب على التوازنات الجديدة وهز أسس قوتها وقضم الفضاء العام، وفرض منظومة معيارية ايديولوجية ديماغوجية لاغية لوجهة التطور المركبة من عناصر طوائفية وأخرى متجاوزة لها. وإذا صحَّ هذا التقويم، فمن الجلي أن الحوار اليوم لا يكون «مضيعة للوقت» فحسب كما ردَّد رئيس «القوات اللبنانية» أكثر من مرَّة أخيراً، بل يكون تحضيراً لتضييع المستقبليْن الخاص والعام لهذه القوى وتصوراتها للبنان «الغد». لكن هذه الأسباب الوجيهة التي تجعل 14 آذار تطالب باستقالة الحكومة الحالية كاعتراف رمزي- سياسي بنهاية نتائج استخدام القوة لتشكيلها، لا تلغي أهمية العناصر المستجدة الكابحة لإمكانات «حزب الله» السياسية، وفي مقدمها أن الانتفاضة السورية عطّلت أو هي بمعرض تعطيل جوانب كاملة من استراتيجيته الحالية، بما هي توليفة تستهدف بلوغ الهيمنة والغلبة المستقرتين بالتراكب والتماهي مع الخط الإيراني- السوري... بخاصة بعد فشل سياسة اختراق «الأمة المغلوبة» وتذريرها وتشجيع تسلّفها والإفادة منه في توطيد شعبيته المذهبية وتماسكها وفي تعويم الحليف العوني... ما يُقلص الأخطار السياسية للمشاركة في حوار قد يخفض الاحتقان المذهبي كما قد يتيح تغليب المُكوِّن والمصالح اللبنانية في سياسة «حزب الله» المستقبلية، بعد اقتراب انهيار حليفه وجسره الأسدي إلى الحاضن والمرشد الايراني.