تحولت الأحداث في سورية إلى أحد أنواع «الفيروسات» البالغة الخطورة، ولم تعد المخاوف من تداعيات ما يجري تقتصر على الداخل السوري، بل على دول الجوار، وهذا «الفيروس السوري» لا لقاح له، لذا هو يستشري يوماً بعد يوم، ليتجاوز الحدود مهدداً باجتياح دول الجوار، من تركيا إلى الأردن وإلى لبنان، وهو يحمل تشكيلة بالغة التعقيد، والأمثلة على ذلك كثيرة: فهناك «العرقنة»، التي تتجلى بوضوح بموجة التفجيرات التي أفرزتها أحداث العراق المعلومة، وهذا ما تشهده العاصمة دمشق وسائر المدن السورية، من حيث طبيعة السيارات المفخخة أو الانتحاريين البشر، وهو ما بات يطلق عليه أنصار الفكر الجهادي المتفرع من الإرهاب–الأم «القاعدة». وهناك»اللبننة»، حيث تم اقتباس هذه الظاهرة والتعبير عنها بشتى أنواع التقسيمات والانقسامات الطائفية والمذهبية وتعميق الهوة بين مختلف «الفصائل اللبنانية» على كثرتها وتعددها. كذلك يتضمن «الفيروس السوري» «الصوملة»، وهو التوصيف الذي أطلقه العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والذي تعيش بلاده مخاطر «تفشي» هذا الفيروس، بعد خروج الوضع عن السيطرة التامة. وقال الوسيط العربي-الأممي الأخضر الإبراهيمي بصراحة: «إن الأخطار مما يجرى لم تعد محصورة بسورية فحسب، بل بالتهديدات الجدية أمام الجميع بما يتجاوز الحدود». وفي بيروت، وصف الإبراهيمي، الذي يُعتبر «خرّيج» الحروب الأهلية اللبنانية، وصولاً إلى «مؤتمر الطائف»، أحداث سورية ب «المعقدة جداً جداً جداً»، وبدا على ملامحه بوضوح مدى خطورة المهمة الملقاة على عاتقه، في سعيه لإحداث أي اختراق في جدار الأزمة، والذي يتجلى بالسعي للتوصل إلى ما يطلق عليه «هدنة الأضحى». ويعرف الإبراهيمي المخضرم والمحنك كيفية استخدام تعابيره بدقة، وعلى سبيل المثال قوله في بيروت:» إذا قلَّ عدد الذين يُدفنون في عيد الأضحى، تكون خطوة صغيرة باتجاه وقف إطلاق النار في سورية»، مضيفاً: «قبل أن تحرق الأزمة الأخضر واليابس». وعليه، وفيما يستعد حجاج بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج والوقوف على جبل عرفات الله، يأمل الأخضر الإبراهيمي في التوصل إلى وقف لإطلاق النار يتم بعده الانتقال إلى مراحل «الحل السياسي» للأزمة، ونقل عن المعارضة السورية (أي معارضة) الاستعداد للالتزام بوقف النار إذا ما تجاوب فريق النظام السوري. وحيث إننا في لبنان نستحضر تلك الحقبة السوداء من تاريخنا المعاصر كي نتذكر كم من مرة كانت الاتفاقات لوقف اطلاق النار تعلَن ثم يتم خرقها وما يعقب ذلك من الاتهامات المتبادلة بين «فصائل النزاع»... وهكذا، وفيما تقترب أحداث سورية من شهرها التاسع عشر وما بعد، فإن «هدنة الأضحى» إذا ما تم التوصل إليها فعلياً وتم إيقاف آلة الحرب التي تحصد البشر والحجر، فإن مثل هذه الهدنة يحتاج إليها أكثر من طرف من أطراف النزاع في سورية، فالنظام يحتاج إليها لالتقاط الأنفاس، كما تحتاج إليها المعارضة المسلحة لإجراء مراجعة شامله للموقف والتحضير للآتي من الأيام والأسابيع والشهور وكيف تمكن مواجهته، إذ عندما انطلقت شرارة الأحداث في سورية مطلع العام الماضي، لم يكن أحد يتصور أن تتطور الأمور إلى ما بلغته حتى الآن، وهذا ما يحتم على الأطراف المتدخلة والمتداخلة في الأزمة السورية إجراء مراجعة نقدية جادة لتصويب مسيرة الأحداث، وهذا يشمل الولاياتالمتحدة الأميركية ومجموعة كبيرة من الدول ذات العلاقة المباشرة بالشأن السوري، القريبة منها والبعيدة، على أن الأولوية الأولى والمطلقة في المساعي الجارية تتركز على وقف نزيف الدم كخطوة أولى، بلوغاً إلى اتفاق أكثر صلابة وشمولية مما جرى حتى الآن. لكن بعض المراقبين المتابعين التطورات السورية من قرب، يطرحون التساؤل التالي: هل إن ما شهدته سورية حتى الآن منذ تسعة عشر شهراً، هو ما يجب فعلاً أن تتوقف عنده هذه الأحداث؟ والجواب على هذا السؤال الكبير: كلا. وفي الحديث عن ارتدادات البركان السوري الهائج، الذي يقذف حممه وشظاياه ذات اليمين وذات اليسار، تجب الإشارة إلى النقاط التالية: اولاً: مع الجهود المكثفة المبذولة لتحقيق «هدنة الأضحى»، حُرِمَ ما يزيد على ثمانية وعشرين ألف سوري من أداء فريضة الحج لهذا العام، بسبب الأوضاع المتفجرة، ويبدو أن بعض الجهود قد بذلت في هذا الشأن لتمكين الحجاج من التوجه إلى مكةالمكرمة، لكنها لم تؤد إلى أي نجاح. ومع المساعي التي يبذلها الأخضر الإبراهيمي تبدأ رحلة الحجيج باتجاه السلام الصعب! ثانياً: أن حرص الإبراهيمي على زيارة الدول المعنية بالأزمة السورية قبل أن يتوجه إلى دمشق، يؤكد مدى عمق الوضع الإقليمي المتداخل في الأزمة السورية، وعليه فقد زار الوسيط المملكة العربية السعودية والتقى مطولاً خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز واستمع منه إلى ما تراه المملكة من مواقف وطروحات لوقف حمامات الدم الغزير المنتشرة في الطول السوري وعرضه، كما زار الإبراهيمي طهرانوأنقرةوبيروت وعمان، قبل الهبوط مجدداً في دمشق. وفي انتظار ما ستسفر عنه المساعي الهادفة إلى هدنة العيد، يراهن البعض على أن الأيام القليلة المقبلة ستشهد تصعيداً كبيراً في العمليات العسكرية على الجبهات كافة، على أساس تعزيز كل طرف من أطراف النزاع مواقفه استعداداً للهدنة الموعودة. ثالثاً: سلك موقف تركيا الكثير من الصعود والهبوط في أسلوب التعاطي مع ما يجرى فى سورية، وآخر تحركات أنقرة ما صرح به «منظِّر الأردوغانية» وزير الخارجية الدكتور أحمد داوود أوغلو، باقتراح نقل السلطة من الرئيس بشار الأسد إلى نائبه فاروق الشرع لقيادة المرحلة الانتقالية، بعد انتقال الوضع العام في سورية من القتال المدمر على كل الجبهات إلى تنفيذ مراحل «الحل السياسي». بعض المراقبين يرى في هذا الاقتراح رسالة واضحة بأن الحكم في سورية سيؤول إلى رئيس سني بدلاً من الرئيس العلوي، فيما يرد جناح بشار الأسد بالقول: دعونا نحتكم إلى الشعب السوري في الانتخابات العامة المقبلة، ومن يحصل على الأكثرية يتولى الرئاسة في المرحلة القادمة. رابعاً: إن سرعة التحرك لتأمين المواد الغذائية والإنسانية لآلاف النازحين السوريين، سواء إلى تركيا أو الأردن أو لبنان، وتزويدهم بألبسة واقية من البرد، إشارة واضحة إلى أن الأزمة السورية مستمرة، وليس في الأفق ما يشير بشكل صريح وجدّي وواضح حتى يمكن أن تحط هذه الأزمة أوزارها. في تطور لافت، أعلن قداسة بابا الفاتيكان بينيديكتوس السادس عشر إرسال بعثة بابوية خاصة إلى سورية للوقوف على مجريات الأحداث. وكانت دوائر الفاتيكان حريصة على استخدام تعابير محددة في معرض إعلانها هذا النبأ، حيث جاء في البيان الرسمي: «إن البابا يدعم مسيرة الشعب السوري»، من دون إشارة محددة إلى هذا الفريق أو ذاك، وهذه بادرة غير مسبوقة تحدث لأول مرة. وفي مجال ربط الأحداث بعضها ببعض، تجدر الإشارة إلى أن الاقتراح البابوي جاء إثر قيام الحبر الأعظم بزيارة لبنان أخيراً، ولعله من وحي هذه الزيارة وما سمعه من الرئيس ميشال سليمان وسائر المسؤولين اللبنانيين عن حراجة الوضع السوري ودقته. وفي سياق متصل، يشار إلى أن حاضرة الفاتيكان قد اعتمدت اللغة العربية اعتباراً من هذا الأسبوع خلال الظهور الأسبوعي للبابا على الجماهير التي تحتشد في العادة لظهور البابا من على شرفة كنيسة القديس بطرس ويوجه رسائل معينة إلى دول مختلفة، وهذا التطور أيضاً يحدث لأول مرة. وبعد... في المحصلة النهائية -ولو الموقتة- لهذه الفترة الزمنية، وفي ظل الظروف الضاغطة على الداخل السوري من جهة ومخاوف اتساع رقعة «الفيروس» من جهة أخرى، بُذل الكثير من الجهود لإحداث أول اختراق في الأزمة التي تشارف على دخولها الشهر العشرين، قبل أن تأتي الثورة على «كل الأخضر واليابس»، وفق توصيف عرّاب الحل، الأخضر الإبراهيمي، الذي يدرك أن مهمته تندرج في عنوان «المستحيل» لكنه يسعى لإنهاء تجربته الثرية بتحقيق إنجاز ما يتصل بما يجري في سورية، خصوصاً وسط المعادلة القائمة «لا النظام استطاع أن يحسم الأمر لصالحه حتى الآن، ولا المعارضة تمكنت من توحيد صفوفها وحسم الوضع العام لصالحها». وفى موسم تقديم الأضاحي، وبعد كل ما جرى حتى الآن، لا بد من تقديم الأضاحي التبادلية بين أطراف النزاع كافة، والأضاحي يجب أن تكون في خدمة السلام، على الرغم من صعوبته، وليس من اجل إذكاء نار الفتن والإمعان في الدمار والخراب. * إعلامي لبناني.