1 كلمتان تخرجان من رحمٍ واحدة. أختان في اللغة وفي الحياة. ولئن كانتا عدوّتين في اللفظ، فإنهما صديقتان في المعنى: عرْشٌ / نعش. ولا أعرف بيقينٍ إن كان في نيتي أن أكتب هنا عنهما، في ذاتهما، أو عمّا حولهما، أو عمّا تختزن دخائل كلٍّ منهما، أو عمّا تحتهما وفوقهما، أو عمّا وراءهما، أو عمّا يجاورهما. ذلك أنّني لا أنْوي أن أتوسّل الأبديّةَ لكي تحوّلَ أيّامَ الأسبوع، عندي، إلى ثمانية أيّام. مع ذلك، يعتملُ في نفسي، في اللحظة ذاتها، شعورٌ مضادٌّ: أن أحوّل النيّةَ إلى عمل. وماذا سيحدث؟ 2 أعرف، وربّما يعرف غيري دون أن يعترف بما يعرفه، أنّ للعرش والنّعش تاريخاً «أخويّاً» واحداً، في الجغرافية العربية. مرّةً تكون الكلمةُ الأولى «شكلاً» والثانية «مضموناً». ومرّةً يحدث العكس. وفي الحالين نسمع لهما «رنيناً» خاصّاً على المسرح الرحب المتنوّع في هذه الجغرافية. نقرأ، أيضاً، هذا الرنين في المكاتب والمقاعد، في النهار والليل، في الأقلام والجرائد. نقرأ ولا ننتهي. وليس هناك غموضٌ. الوضوح سيدٌ على كل شيء. ولئن غاب الممثّلون الأوائل عن هذا المسرح المتواصل الضخم، فإنّ لهم تماثيل تحلّ محلّهم تأكل، وتضحك، وتعبث، وتحكم، وتقتل. تماثيل تبدو أحياناً أنّها أكثر قدرةً وأكثر جرأةً من أصحابها الأصليين. تماثيل تفعل فعل «الذاكرة الدائرية»، وفقاً لعبارة رولان بارت، في كلامه على العلاقة التي كانت تربطه بكتابة مارسيل بروست. 3 «الذاكرة الدائرية»: أينما ذهبتَ في أنحاء الحياة العربية، فأنت داخل الدائرة. هل يمكن أن نتخيّل خروج اللغة من هذه الدائرة؟ يمكن. لكن، لن يقبل العرشُ ذلك ولا النعش. لن يقبل القادةُ ولا الصعاليك. ستهيمن الوحدةُ هنا وهناك. وحدةُ جمعٍ لا تتغيّر. هي هي نفسُها، منذ نشأت. وليس لرغبات الفرد في هذا الجمع، أو لأحلامه وأهوائه، أيّ مكان في حياته وفي فكره على السّواء. هو مجرّد رقم: يولد ويموت رقماً. ليس الإنسانُ، تبعاً لذلك، جديراً أن يتغيّر بقدراته الذاتيّة. لا ذاتَ له. لا يغيّرُ المخلوقَ إلا خالقُه. ذاكرةٌ دائريّة، لحياة دائريّة، لزمن دائريّ. * باسم تلك الوحدة، قد تشتعل حربٌ على كلّ من يغريه الانشقاق عن الجمع. حربٌ تختزل السياسة والعملَ السياسيَّ فيها. وقد تتخذ أشكالاً متنوّعة أهمّها شكلُ العنف المسلّح. إنها الحرب التي يصفها مكيافيللّي، بأنها «الفنّ الأسمى» لتحقيق الهيمنة. وهي بسبب من ذلك، الوسيلة الفُضلى لضمان وحدة الصفوف و «رصّها». كما لو أنّ الحربَ لاهوتٌ آخر. كما لو أنّها امتدادٌ للسياسة بطرقٍ أخرى. لكن، ماذا لو أنّ الحربَ فاضت عن حدود السياسة، بحصر المعنى؟ كأن تتحوّل إلى حربٍ تعصّبيّة باسم لاهوت أو ناسوتٍ أو إيديولوجية؟ آنذاك ستقود هذه الحربُ أصحابها إلى تجريد العدوّ أو من يعدّونه عدوّاً، من إنسانيّته، والنظر إليه بوصفه تمثالاً للشرّ المطلق، مقابل تمثال الخير المطلق، تسويغاً لإبادته واستئصاله. « كلاّ، لن نطلق عليك رصاصةً. للرصاصة ثمن. فسبحان من حلّل ذبحك». تلك هي صرخة اللاهوت السياسيّ في وجه الناسوت الذي يحسبه عدوّاً. هل ما يحدث في سورية، مثلاً، أو ما حدث في العراق، أو اليمن أو السودان، أو الجزائر، أو ليبيا حربُ ناسوتٍ أم حربُ لاهوت؟ وأين السياسة هنا؟ وماذا وراء هذا الثنائيّ الحربيّ اللاهوت الناسوت؟ وماذا نرى تحته، وفوقه، وحوله، وداخله؟ وإلى أين يقود هذا «التاريخ» تلك «الجغرافيا»؟ أجسامٌ تتمزّق. رؤوسٌ تتدحرج. أشلاء تتطاير. عمران يتهدّم: إنه لَغْوُ التاريخ يتموّج على هذا السطح البشريّ الذي يتموّج بين ماء الأطلسيّ، وما بقي من ماء دجلة والفرات. قتلٌ من أجل القتل. خراب كيان وخراب إنسان. طغيانٌ يحلّ محلّ طغيان. تاريخٌ للخروج من التاريخ. وماذا يبقى مما يُقال له علمٌ وأدبٌ وفنّ؟ وأين الكتابة؟ أهي اختراقٌ لهذه الظلمات، أم هي مدائحُ وأهاجٍٍ، وانعكاس انتماءات؟ كتابة تندرج في هذا العماء التاريخيّ العامّ. كتابةٌ تمجيدٌ للدّاء وفعله وعناصره وأدواته. تمجيد لجميع الحُجُب لكن مع «تفضيل» حجابٍ على آخر، لغاياتٍ لا يفهمها إلاّ «العلماء». وأين هي تلك الثورة التي تحدُث أولاً في الرأس، وفي العقل، وفي الجسد، وفي اللغة؟ لكن، ماذا أقول وبماذا أهذي؟ يكفي أن نترك للخراب نفسه أن يسيطر، وأن يقيم المباريات والمنافسات بين أبطاله. يكفي أن يظلّ العالم العربيّ متصدّعاً، لا مفاصل له، وفي «أحسن» حالاته، انهياراً. تاريخ للخروج من التاريخ. 4 يقول الناقد الفرنسيّ جان بريفوست في صدد كلامه على فنّ السرد عند ستندال: «لا يعبَّر عن قوة الشعور بالأحداث إلا بنسيان كامل لدقّتها». هل علينا، إذاً، لكي نمتلك هذا الشعور أن نبتكر نسياناً خاصّاً بالأحداث العربية التي «تبتكرها» تلك الكلمتان الأختان: العرش والنّعش؟ ونسياناً خاصّاً لما يتأسّس بينهما: هيمنة الجمع على الفرد، وهيمنة الدولة على الإنسان. في «ثقافة» إعلاميّة جوهرها الدعاية: مدحاً، أو هجاءً؟ وكيف يمكن أن نبتكر هذا النسيان في ثقافة «تجلس» و «تمشي» و «تأكل» وتنام في أحضان الذاكرة، وبين يدي «آلتها»؟ تخيّل، أنت يا من تقرأني الآن، كيف أعيش خارج هذا النسيان، أو هذه الذاكرة. تخيّلْ وارسمني. عيناي، لا في رأسي، بل في جلدة كتاب، عقلي محفوظٌ في صندوق مغلق بعيداً عن «رطوبة» الأباطيل، لا أحتاج إلى رأسي: يحلّ محلّه شبيهٌ به كيسٌ محشوٌ بالتعاليم المحشوة باليقين، فمي محفورٌ في راحة يدي، وليس لي أن أشكو أو أن أسأل، عندما أرى جسمي يتدحرج لكي ينزل في جوف الحوت. الحوت هو المعنى. وهو أبجدية المستقبل. وهو «الذاكرة الدائرية» نفسها. صمتاً، صمتاً أيتها اللغة.