يتبخترون في شارع الحمراء، باحثين عن مخالفين لقانون منع التدخين في الأماكن العامة. ما إن يمروا بجانب مقهى أو مطعم، حتى تتغيّر ملامحهم، فيصبحون أكثر حزماً وشدة. يدخلون مقاهيَ للتأكد من سلامة الوضع. يجولون بأنظارهم على الزبائن، متمعّنين في بعضهم للحظات، ثم يغادرون أملاً بتحرير مخالفات. إنهم أفراد الشرطة السياحية اللبنانية، وهي قوة مكلفة مراقبة تطبيق القانون 174. باتت الأجواء أنقى في المطاعم والمقاهي والملاهي. اختفت غمامات الدخان، وسُحُب النارجيلة. علب سجائر تستقرّ مهملة على الطاولات، على غير العادة. فمن يريد تدخين سيجارة عليه التوجه إلى الخارج حيث الحرارة مرتفعة صيفاً ومنخفضة شتاء. ولهذه الغاية وضع بعض المقاهي مقاعد خشبية للمدخنين في الخارج. وبات مشهداً مألوفاً أن تشاهد «الشلل» تتجمع خارج المقاهي، ليتعاونوا في صنع سحابة من الدخان. ويبدو أن ثمة قراراً رسمياً حازماً بضرورة تطبيق القانون. واللافت أن الحزم في تطبيق القانون نابع من الغرامة الباهظة (نحو 2700 دولار) المفروضة على أصحاب المطاعم والمقاهي قبل الأفراد، ما أعطى القانون قوة إضافية، على عكس قوانين وقرارات سابقة. يوضح رئيس قسم الشرطة السياحية في لبنان، العقيد جان غريّب ل «الحياة»، أن الدولة تسعى إلى زيادة عديد الشرطة، لتغطية كل المناطق وتطبيق القانون بصرامة، مشيراً إلى أن الشرطة لا تتهاون في تحرير المخالفات بحق المدخنين غير الملتزمين بالقرار. ويضيف أن الالتزام من الجمهور ينم عن وعي ومسؤولية. وعلى عكس قوانين سابقة كحزام الأمان، ورادارات السرعة، وهما قانونان طبّقا لفترة ثم تراخت الدولة في متابعتهما، تصر السلطات على منع التدخين في الأماكن العامة، ويبدو أنها نجحت في ذلك، حتى الآن. لكن الأمر لا يخلو من بعض الخروق، خصوصاً في المناطق البعيدة من سلطة الدولة، كأقاصي الجنوب والبقاع والشمال. كما خصصت الدولة الرقم الساخن 1735 للمواطنين، للتبليغ عن أي مخالفة يرونها. وعلى رغم إيجابيات القرار، وانعكاساته على الصحة العامة، فقد ساهم في إقفال نحو 30 في المئة من المؤسسات التي تعتمد على النراجيل مثلاً، لنسبة الربح الخيالية فيها. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبعدما كان لبنان «جنّة المدخنين» العرب والأجانب، ساهم القرار في تقليص عدد رواد المطاعم، خصوصاً تلك التي تقدّم طعاماً تقليدياً لبنانياً. وبما أن الكثير من المقاهي والمطاعم لا مساحات مفتوحة فيها، فقد بات عملها يقتصر على تقديم أكواب الشاي والقهوة والوجبات الخفيفة التي لا يكفي مردودها لدفع رواتب الموظفين، فاستُغني عن غالبيتهم بحجة الضائقة الاقتصادية. ويبدو أن مصائب قوم عند قوم فوائد، إذ أضاف بعض المحال، التي لا علاقة لها بالطعام وتملك مساحات مفتوحة، كراسي وطاولات ونراجيل على أنواعها، مستفيدة من «أزمة» المطاعم الملزمة بمساحاتها المغلقة، والأمر نفسه ساهم في ارتفاع الدخل لدى المطاعم التي استحدثت تدخين النراجيل في امتداداتها في الهواء الطلق. استغراب والتزام تستغرب جنى مدى التزام المدخنين بالقرار، وقوة الدولة في تطبيقه: «كنت أعود من سهرتي ورائحة الدخان تلفني، كأنها وشاح على رقبتي، أما اليوم فبات الوضع مختلفاً. السهرة من دون سجائر وسيجار تتيح مجالاً أوسع للأحاديث والنقاشات، والرؤية باتت أوضح خصوصاً في الأمكنة الضيقة». وتضيف: «جميل أن نلتزم بالقوانين، والأجمل أن تسهر الدولة على مراقبة كل القوانين، كما تفعل مع منع التدخين». الاستغراب الأكبر يكمن لدى سامر الذي فوجئ بمدى التزام المقاهي والمطاعم في الضاحية الجنوبية لبيروت: «لطالما كانت الضاحية خارج النطاق الأمني للدولة، لكني فوجئت بحجم الالتزام في المقاهي، فما إن هممت مرة بإشعال سيجارة، حتى اقترب مني مدير الصالة ليخبرني بكل احترام أن التدخين ممنوع، وأن عليّ التوجه إلى الخارج لإشعال حبيبتي - السيجارة». واللافت أن بعض المقاهي شرع في إجراء تعديلات كي لا يخسر زبائنه. ويضيف خالد: «يبدو أن السلامة العامة تهم الجميع، على أمل دخول الدولة إلى الضاحية في شكل جدي، وتنظيم السير وجباية فواتير الكهرباء والمياه». ومن سلبيات القرار أن بعض المدعومين من جهات سياسية في بعض الأحياء، افتتحوا مقاهي تقدّم نراجيل على الأرصفة العامة، ما يتسبب بزحمة سير ويعيق حركة المارة. وبدأت هذه الظاهرة تنتشر بعد قرار منع التدخين في الأماكن العامة، وباتت عشوائية وتهدد بالتوسع، وهذا ما يجب على الدولة التنبه إليه. كما باتت واجبة مراقبة الفئة العمرية بين من تُقدّم لهم النارجيلة في الأماكن العامة، ووضع قوانين لذلك، خصوصاً أن شباناً لا تتجاوز أعمارهم 14 سنة يتشاركون في دفع ثمن نارجيلة (نحو 12 دولاراً) وتدخينها. واللافت أن وزارة السياحة أقفلت 14 ملهى، عامي 2011 و2012، بعدما ثبت أنها تدخل قاصرين إلى مرابعها. ومنذ تطبيق قانون منع التدخين في الأماكن المغلقة، لم تتوقف النقابات السياحية في لبنان عن الاحتجاجات المطالبة بتعديله، لما فيه من ظلم لبعض المؤسسات. ويرى رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي بول العريس في حديث إلى «الحياة»، «ضرورة وجود هذا القانون ولكن مع بعض التعديلات لتخفيف من وطأة الخسائر التي تكبدها القطاع الاقتصادي والسياحي بسببه». ويضيف: «نحن تحت سقف القانون لا فوقه، شرط أن يكون منصفاً، لن نكون ضحية لجمعيات تدعي أنها أهلية ولا تنظر إلى القضايا إلا من منظار مموليها الأجانب والمحليين». ومن الخطوات التي اتخذتها النقابات السياحية، يوضح العريس، أنها تقدمت بمشروع تعديل للقانون لدى مجلس النواب، على أن تصدر رخصاً سنوية لبعض المقاهي والمطاعم التي تستوفي شروطاً لازمة، مقابل بدل مادي سنوي، لافتاً إلى أن قانون منع التدخين «صدر في زمن يعاني فيه القطاع السياحي انحداراً حاداً في أعماله». ويأمل بتعديل القانون على غرار بعض المدن الأوروبية والخليجية لتأمين استمرار عمل مؤسسات كثيرة.