«التجاهر بما ينافي الحياء» تهمة باتت جاهزة في تونس بعد الثورة لتلصق بكل من يتجرأ على مخالفة قيم وتقاليد تحاول حركة النهضة إرساءها في المجتمع، سواء على الصعيد الفردي أو العام. آخر ضحايا تلك التهمة شابة تعرضت للاغتصاب على يد رجال شرطة وتحلت بما يكفي من الشجاعة لتقاضيهم، فإذا بها تتحول متهمة بالتجاهر بما ينافي الحياء. وإذ يتندر التونسيون اليوم على معيار الحياء ويتساءلون إن كان ثمة باروميتر لقياسه، إلا أنهم في الواقع أكثر جدية وإصراراً في التعاطي مع هذه المسألة التي تمس صميم حرياتهم الشخصية ومكتسباتهم المدنية، خصوصاً في ما يتعلق بحقوق المرأة. فصحيح أنه خلال العهد السابق حرم التونسيون من ممارسة حرياتهم في السياسة والتعبير والاستثمار والتنقل وغيرها، إلا أنه بقي لديهم هامش واسع من الحريات الشخصية والحياة المدنية. فمبدأ المساواة بين جميع المواطنين التونسيين ليس وليد الأمس وإنما يعود بالدرجة الاولى إلى زمن إلغاء العبودية في 1846، ثم إلى الحقبة البورقيبية التي وضعت إطاراً قانونياً موحداً لتسيير الحياة اليومية وإدارة علاقة الأفراد في ما بينهم، وجعلت المرأة مساوية للرجل في المواطنة، ومنحتها حقوقاً لا تزال نساء العالم العربي يناضلن للحصول على نصفها. وإذا كانت الثورة قامت على مطلبي العمل والحريات في شكل أساسي، فإنها بذلك ارادت أن يشكل تحقيقهما إضافة الى مكتسبات موجودة أصلاً لا أن يحلا محلها. فالثورة لم تنطلق بمحرك ديني يسعى إلى تغيير النمط الاجتماعي في البلاد، ولا على خلفية اجتماعية تقليدية تتنافى بممارساتها اليومية مع سلوكيات الطبقة الحاكمة، وهو ما يصح في مصر مثلاً، حيث المجتمع أكثر تديناً ومحافظة من حكامه فيلقى خطاب الإخوان قبولاً في الشارع لأنه، بطريقة ما، امتداد لممارسته الاجتماعية - الدينية. لذا يبدو اليوم ضرباً من الخيال أن يعود المجتمع التونسي إلى مناقشة ما افترضه لعقود طويلة مجرد بديهيات، لا سيما إن كان النقاش مشبعاً بمضامين أخلاقية تستمد سلطتها من الدين، وهو أكثر ما يخيف الحقوقيين والناشطين. فتلك التهمة، اي منافاة الحياء، لا تقتصر على الفتيات والنساء فحسب، بل توجه أيضاً ضد كل من يعارض بسلوكه سلّم قيم وضعته النهضة لنفسها، وتسعى لتطبيقه على بقية التونسيين، ومثال على ذلك توقيف صحافيين ومدوّنين ومواطنين عاديين من دون نص قانوني ذي صلة، وإنما بزعم منافاة الحياء. وأكثر ما يخيف المجتمع المدني والمديني على السواء في تونس، هو تغلغل تلك العقلية الى النسيج الاجتماعي في حال لم تنجح النهضة في فرضها على القوانين. ذاك أن الجهد المبذول لمقارعة النهضويين في مجال التشريع، أتى ثماره وفشل هؤلاء في تمرير تعديل قانوني يجعل المرأة «مكمّلة للرجل»، وليست مساوية له، بعد تظاهرات عمّت أرجاء البلاد. كذلك، يتصدى القانونيون حالياً لمشروع قانون «حماية المقدسات» الذي يهدف، من ضمن ما يهدف، إلى الحد من الإبداع الفني والحريات الاكاديمية وغيرها. لكن المعضلة الفعلية التي تواجه هؤلاء هي العمل الدؤوب والهادئ على تغيير العقليات في شكل يجعل ضحية اغتصاب متهمة بالفتنة ومنافاة الحياء أمراً عادياً ومقبولاً. * صحافية من أسرة «الحياة»