شهدت مدينة بنغازي، ثاني أكبر المدن الليبية وعاصمة شرق البلاد، تطورات متسارعة خلال الساعات ال 48 الماضية، تكللت بانسحاب كتائب السلفيين منها بعدما هاجمتهم حشود غاضبة تطالب بنزع سلاح الميليشات. ومثّل إخراج السلفيين من المدينة تطوّراً لافتاً كونه يُعتبر رداً شعبياً على تنامي نفوذ الجماعات الإسلامية المسلحة التي يُشتبه في تورط بعض عناصرها في حادثة مقتل السفير الأميركي في ليبيا كريس ستيفنز الذي قضى اختناقاً عندما هاجم محتجون إسلاميون مقر قنصلية الولاياتالمتحدة في بنغازي قبل أقل من أسبوعين. وفي حين أفادت معلومات رسمية أن أربعة قُتلوا و70 جرحوا في مواجهات بنغازي ليل الجمعة، نقلت «فرانس برس» عن مصدر طبي في المدينة أن ستة من عناصر الأمن تمت «تصفيتهم» على ما يبدو أثناء المواجهات بين متظاهرين وكتيبة تابعة لوزارة الدفاع، وهي كتيبة تضم إسلاميين يعملون تحت إمرة الحكومة. لكن لم يعرف ان كان القتلى سقطوا على يد الإسلاميين ام انهم انفسهم من الإسلاميين. وقال المصدر الذي طلب عدم كشف هويته وأكد حصيلته مسؤول في النيابة: «بالنظر إلى طبيعة الإصابات فمن الواضح أن الستة تمت تصفيتهم»، مضيفاً أن أربعة منهم أصيبوا برصاصات في الرأس واثنين في الصدر والرأس. وقالت جماعة «أنصار الشريعة» التي نفّذت الاحتجاج أمام القنصلية الأميركية في بنغازي في 11 أيلول (سبتمبر) الجاري لكنها نفت علاقتها بمقتله وثلاثة أميركيين آخرين، إنها انسحبت من المدينة بهدف حقن الدماء واحتراماً لرغبات أهلها، بعد التظاهرات الشعبية الحاشدة (ضمت أكثر من 30 ألفاً)، الجمعة، التي طالبت بتسليم الميليشات أسلحتها إلى الدولة. وذكرت وكالة الأنباء الليبية الرسمية أن رئيس المؤتمر الوطني العام الدكتور محمد يوسف المقريف «ثمّن ما عبّر عنه المتظاهرون في مدينة بنغازي من تأييد قاطع للسلطة الشرعية في ليبيا المتمثلة في المؤتمر الوطني العام والحكومة الانتقالية وما دعوا إليه من ضرورة انصياع كافة الكتائب لهذه الشرعية وحل كل التشكيلات المسلحة وضمها بشكل رسمي للجيش والشرطة». وقال المقريف في كلمة أذيعت ليلة الجمعة - السبت عقب تظاهرة «جمعة انقاد بنغازي»: «لقد تحقق بفضل الله وجهود هؤلاء المتظاهرين إجلاء الكتائب الخارجة على الشرعية في مدينة بنغازي عن المواقع التي كانت محتمية بها». ودعا المتظاهرين إلى «الانسحاب السلمي الفوري من أمام مواقع ومقار عدد من الكتائب الخاضعة فعلاً لشرعية الدولة والملتزمة بها مثل قوات درع ليبيا وكتيبتي رأف الله السحاتي و17 فبراير، وذلك تجنباً لخلق ظروف قد يستغلها أعداء الثورة والمتربصون بها». ودعا المقريف «أفراد وقيادات قوات درع ليبيا وكتيبتي رأف الله السحاتي و17 فبراير إلى ضبط النفس وتغليب مصلحة الوطن والثورة». لكن دعوته هذه لم تلق على ما يبدو استجابة كاملة من المحتجين الذين ينظرون إلى بعض هذه الوحدات بوصفها تضم إسلاميين متشددين على رغم تمتعها بغطاء رسمي من الحكم الليبي الجديد. ونقلت الوكالة الليبية الرسمية عن مصادر طبية في بنغازي أن أربعة قتلى وأكثر من سبعين جريحاً سقطوا خلال عمليات اقتحام المتظاهرين ليلة الجمعة لمقرات التشكيلات المسلحة. لكن بعض وكالات الأنباء العالمية قدّم حصلية أدنى لعدد الضحايا. وقال شهود إن قتلى وجرحى سقطوا خلال محاولتهم اقتحام مقر سرية «رأف الله السحاتي» التابعة لوزارة الدفاع في منطقة الهواري. وأضافوا أن تبادلاً لإطلاق النار والصواريخ حصل حول مقر السرية قبل أن يخليه المسلحون الإسلاميون. وقبل توجّه المتظاهرين إلى مقر هذه السرية كانوا قد اقتحموا قبل ذلك مقر كتيبة «أنصار الشريعة» وخرّبوه وأحرقوه وطردوا من كان فيه. وأفاد شهود أيضاً أن مجموعة «أنصار الشريعة» أخلت تحت ضغط المتظاهرين مستشفى الجلاء الذي كانت تسيطر عليه. وفي الإجمال أخلت الميليشيات أربع منشآت عامة أخرى على الأقل لدى وصول المتظاهرين. وقال ناطق باسم «أنصار الشريعة» أمس إنها أخلت قواعدها في بنغازي للحفاظ على أمن المدينة. ونقلت «رويترز» عن الناطق باسم هذه المجموعة يوسف الجهاني إن زعيمهم أعطى تعليماته للأعضاء بإخلاء قواعدهم وتسليمها لسكان بنغازي، مضيفاً أن الجماعة تحترم وجهة نظر سكان بنغازي ولذلك أخلت القواعد للحفاظ على الأمن. وذكرت وكالة «فرانس برس» أن الهدوء عاد إلى بنغازي السبت وسط مخاوف من حدوث أعمال انتقامية من الجانبين. ونقلت عن الناشط جلال القلال قوله أمس: «الوضع متقلب ولا نعرف كيف سيكون رد الفعل» من قبل المليشيات وأيضاً السلطات وأسر الضحايا. واتهم وزير الداخلية فوزي عبد العال، من جهته، أشخاصاً «اندسوا بين المتظاهرين»، وبعضهم كما قال ينتمون إلى أجهزة الأمن ويريدون إشاعة «الفوضى والتمرد». وقالت ناشطة ليبية على «تويتر»: «لقد تمكن سكان بنغازي في يوم واحد من إنجاز ما فشلت الحكومة في فعله لعدة أشهر»، في إشارة إلى وعودها بنزع أسلحة الميليشيات. وقال الاخصائي في الشؤون الليبية جايسون باك «إن هذه التعبئة ربما ستحض المؤتمر الوطني للقيام بتحركات حاسمة ضد الميليشيات امتنعت عن القيام بها السلطات الانتقالية» بسبب نقص القوة العسكرية وتخوفاً من أعمال انتقامية. وقد فشلت السلطات الجديدة أيضاً في نزع السلاح وحل مجموعات الثوار السابقين الذين حاربوا نظام معمر القذافي أثناء ثورة 2011، مع أن عدداً منهم انضموا إلى وزارتي الدفاع والداخلية. وكشف الهجوم على القنصلية الأميركية الذي وقع أثناء تظاهرة احتجاج على فيلم مسيء للإسلام انتج في الولاياتالمتحدة، عجز السلطات عن توفير الأمن في البلاد وكذلك تنامي نفوذ الجماعات الإسلامية المتشددة في ليبيا. وشهدت بنغازي ثاني المدن الليبية ومهد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام القذافي، في الأشهر الأخيرة هجمات عدة استهدفت مصالح غربية وعمليات اغتيال لمسؤولين أمنيين. وفي واشنطن (أ ف ب)، قالت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الجمعة إن الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي كان فعلاً «هجوماً إرهابياً»، مؤكدة ما أعلنه البيت الأبيض في هذا الشأن بعد أيام من التصريحات المتناقضة. وقالت كلينتون في ندوة صحافية إن «ما جرى في بنغازي هجوم إرهابي ولن نهدأ حتى نعثر ونحيل على القضاء الإرهابيين الذين اغتالوا أربعة أميركيين» بمن فيهم السفير كريس ستيفنز. ووصف الناطق باسم البيت الأبيض جاي كارني للمرة الأولى الخميس الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي بأنه «إرهابي»، لكنه تساءل عن الدرجة التي كان فيها متعمداً. ومنذ أسبوع، يدلي المسؤولون الأميركيون رسمياً أو من دون كشف هوياتهم بتصريحات متناقضة أحياناً حول ذلك الهجوم. ورداً على سؤال في لجنة بمجلس الشيوخ، وصف رئيس دائرة مكافحة الإرهاب ماثيو أولسن العملية بأنها «إرهابية» لكنه أكد أنها «شنت بطريقة انتهازية». وعشية ذلك رفضت وزارة الخارجية الأميركية التحدث عن «عمل إرهابي» مفضلة انتظار نتيجة تحقيق مكتب التحقيق الفيديرالي (أف بي آي). وأعلنت سفيرة الولاياتالمتحدة في الأممالمتحدة سوزان رايس الأحد الماضي أن ذلك الهجوم ليس «منسقاً» و «متعمداً» بالضرورة بل قد يكون ناجماً عن تجمع «تلقائي أصبح عنيفاً جداً» أمام القنصلية احتجاجاً على الفيلم المسيء للإسلام «براءة المسلمين». والخميس بحثت كلينتون والمدير الوطني للاستخبارات جيمس كلابر ومسؤولين كبار في البنتاغون في جلستين مغلقتين مع مجلسي النواب ثم الشيوخ في تفاصيل المعلومات التي بحوزة الولاياتالمتحدة. وبعد ذلك شكلت وزيرة الخارجية لجنة يرأسها سفير سابق ستنظر في الإجراءات الأمنية التي كانت سارية في بنغازي عند وقوع الحادث.