في وقت باكر من بدء الثورات العربية خصوصاً بعد انهيار النظام المصري الحاكم ونظيره الليبي واليمني، اختلف المحللون العرب حول ما إذا كانت المتغيرات الجديدة في الوطن العربي ستنهي الصراع المرير مع الإرهاب أم ستمنحه فرصة لالتقاط أنفاسه وتعويض خسائره الفادحة بعد مقتل قيادييه الكبار في أفغانستان واليمن؟ التفاؤل في البداية كان كبيراً إلى درجة دفعت المفكر المصري مصطفى الفقي إلى الجزم بأن «الحصاد الإسلامي ل«الربيع العربي» بدأ يغري التيارات الإسلامية المختلفة بالعمل العلني بديلاً للنشاط الخفي، ولذلك أهمية في مستقبل الحركات الإسلامية عموماً»، مستنداً في ذلك إلى تحليلات وبراهين كان أغربها «ما كان يقال دائماً أن الأنظمة الاستبدادية في العالم الإسلامي هي التي تفرخ الإرهاب، ومن ثم فإن تغيير هذه الأنظمة يؤدي بالضرورة إلى حال من الترشيد السياسي الذي يسمح بعملية تحول ديموقراطي سلس»! ولم يذهب الإعلامي السعودي جمال خاشقجي بعيداً عن تلك النظرة التفاؤلية، بل ذهب إلى أبعد حين اعتبر «تنظيم القاعدة هزمت بالربيع العربي»، وساق على ذلك أدلة، مثل أن «أي شعار للقاعدة لم يرفع فيها». لكن غمرة النشوة بالربيع العربي لم تغفل محللين آخرين مثل مشاري الذايدي وعبدالله بن بجاد عن ملاحظة تاريخ تنظيم القاعدة، وحركات العنف الإسلامي عموماً، باعتبار «الفوضى واختلاط الأوراق في دول الربيع العربي وغياب الاستقرار وتصاعد النفس الثوري وتراجع سلطة الدولة وانتشار السلاح، هي الوصفة الأنسب لنشاط عمل القاعدة وأخواتها، وأية حركة غير قانونية أياً كان توجهها اليساري أو الإسلامي». غير أن الوجهة الأخيرة ظلت هامشية في التقويم السياسي، على رغم وضوح براهينها، حتى بدأ السلاح الليبي يتدفق على صحراء مالي، مانحاً تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي وبعض الطوارق المقربين منها «قوة بطش ملفتة»، سحقوا بها في أيام معدودات الجيش المالي، وتمكنوا عبرها من حكم أجزاء واسعة من الصحراء الكبرى أمام العالم أجمع، من دون أن يملك هذا الأخير نحوهم الكثير من الحول أو القوة. إلا أن التحول الصاعق الذي امتحن صدقية كلا الوجهتين السابقتين، جاء عندما هز رد الفعل الراديكالية على «الفيلم المسيء» دول الربيع العربي، فراح ضحيتها أبرياء بالعشرات، أهمهم سفير أميركا في ليبيا التي لم تزل آثار الطائرات الأميركية فيها حية، وهي تقاتل إلى جانب ثوارها الباحثين عن ليبيا خالية من القذافي، لتنتقل منها شرارة العدوى إلى دول إسلامية وعربية عدة. التطورات التي جاءت متزامنة مع الذكرى ال11 من أيلول «سبتمبر» على رغم أنها فاجأت البيت الأبيض، إلا أن المراقبين المحايدين كانوا مدركين أن الصراع مع التيارات المتشددة التي نفخ فيها الربيع العربي روحه «آتٍ لا ريب فيه»، وما ينقصه غير الذرائع للاشتعال، ذلك أن دوافع تلك التيارات في التطرف والإرهاب أكبر من اختصارها في ديكتاتورية القذافي أو بطش حسني أو فساد علي عبدالله صالح. الإخوان والإرهاب وأميركا وإذا كان الاختبار الحالي برهن على أن الإرهاب لم يضعفه الربيع العربي لمن كان يشك في ذلك، فإن سؤالين بقيا يشغلان المهتمين بالقضية فكرياً وسياسياً، إنهما: كيف ستتعامل أنظمة الحكم الإسلامية الجديدة (الإخوانية) مع حركات الفكر المتشدد، وهم الرافعون للرايات السود؟ وأما الآخر، فهو: كيف ستتعامل أميركا مع حلفائها الإسلاميين بعد أن خيبوا أملها عند أول امتحان؟ بالنسبة إلى السؤال الأول، فإن جمال خاشقجي يقر بأن «إشكال التطرف، أوقع المؤيدين للثورات العربية في حيرة، فما أخر تسليح الثوار في سورية على سبيل المثال، إلا الخشية من وقوع أسلحة خطرة جداً في أيدي حركات مسلحة مثل الأكراد أو إرهابية مثل القاعدة، فكان لا بد من آلية لضمان عدم حصول ذلك»، مشيراً في الناحية الأخرى، إلى أن من يسميهم السلفيين الذين لم يتعودوا على أنسام الحرية، ستجد الحكومات الجديدة مشكلة في التعاطي معهم، إلا أنهم مع الوقت سيفشلون. بينما يتفاءل آخرون بقدرة الإسلاميين على وضع حد للحركات المسلحة، بدليل الحزم الذي أبداه الرئيس المصري محمد مرسي أخيراً في حملته على إرهابيي «سيناء»، ولا يتناسون التجربة السعودية في تحقيق أكبر انتصار دولي على تنظيم القاعدة، ويرون في ذلك دليلاً على أن «الدول ذات الخلفية الإسلامية، هي الأكثر قدرة على مواجهة المتشددين، لأنها في ذلك تزواج بين الحل الفكري والأمني». غير أن مقاتلي الشبكة الإلكترونية لا يتوقعون من الشعب التونسي مثلاً، أن يتقبل من حركة النهضة الإسلامية القمع الذي كان يلاقيه على يدي زين العابدين بن علي، حتى وإن بررت النهضة ذلك بمكافحة الإرهاب المهدد للأمن الاجتماعي بالكلية. الإسلاميون أشد بطشاً! لكننا إذا ما عدنا إلى التاريخ، فإن الحكومات الإسلامية حتى تلك المتخلفة مثل طالبان، أثبتت أنها الأشد بأساً في فرض القانون والشروط التي تؤمن بها على المحكومين، سواء في السودان أم الصومال أم حتى في شمال مالي الذي تحكمه الآن بالحزم حركة إسلامية حليفة للقاعدة، تدعى «أنصار الدين»، وبهذا الاعتبار يرى البعض أن «الربيع العربي أنعش الإرهاب، لكنه سيهزم به أيضاً».بيد أن رئيس حملة السكينة السعودية المهتمة بمعالجة الفكر المتطرف عموماً الشيخ عبدالمنعم المشوح، يعتبر أن أسوأ ما أضافه ما يسمى بالربيع العربي إلى الفكر المتشدد هو منحه إياه الحرية في الظهور إلى العلن بأعلامه وأشكاله وأفكاره وأدبياته، حتى غدا مألوفاً للناس، بعد أن كان مثيراً للريبة من أي تحرك له في العلن سابقاً. ويضيف «القاعدة كانت مشغولة بالبحث عن موطئ قدم في الثورات وركوب موجتها، فجاءتها التطورات الجديدة (الفيلم المسيء) هدية استغلها أنصارها على الأرض بذكاء»! وأما السؤال الثاني حول الموقف الأميركي الجديد المتوقع من دول الربيع، فإن الأميركيين أنفسهم أعربوا عنه، إلا أن كتّاباً مثل عبدالرحمن الراشد يخشون من أن يدفع ما اعتبرته أميركا خذلاناً لها من التخلي عن «الثورة السورية»، التي أشار الراشد إلى أنها مهما قيل عن تواضع المساندة الدولية لها إلا أن الموقف الايجابي منها وفّر للمقاتلين غطاءً، لن يكون متاحاً إذا ما تغير الموقف الأميركي منها. بينما يجزم عبدالمنعم المشوح، بغض النظر عن المكاسب السياسية لأميركا في إسقاط أنظمة تخالف نهجها السياسي، فإننا باطمئنان يمكننا الجزم بأن واشنطن هي الخاسرة في دعم إسلاميي دول الربيع، مثلما كانت كذلك عندما ساندت مجاهدي أفغانستان. لكن محللين آخرين، يعتقدون أن أميركا التي لم تدّعِ يوماً أنها صانعة الثورات العربية، لم يكن أمامها غير مساندة الحراك الشعبي فيها، إذ حين أسقط الحراك بعض حلفائها الديكتاتوريين، لم يكن أمامها - بعد تسيّد التيار الديني للمشهد - سوى المناورة ، لضمان وصول فصيل من الإسلاميين أقل تشدداً في نظرها، هم الإخوان المسلمين. فلم تكن بذلك غير التي اختارت أهون الشرين. ولكن بأي شيء سيجيب هذا الفريق عن مشاركة أميركا في العمليات العسكرية ضد القذافي؟ الجميع يترقب سورية لمعرفة جواب واشنطن النهائي!