لا يبدو أن المفاجآت تنتهي عند مقتل أسامة بن لادن نفسه، ولا عند ما ترسله أميركا من معلومات مقتضبة ومثيرة حول تفاصيل مقتل أسطورة التيارات الجهادية، ولكن أيضاً بدأت التحليلات هي الأخرى تأتي بالعجائب والمفاجآت، ربما لأن المشيئة الإلهية اقتضت أن يكون ابن لادن مثيراً حياً وميتاً كما رغب أن يكون وهو الذي دفع كل حياته ثمناً للبقاء تحت الأضواء. وبين أكثر الخبراء في التنظيمات الدينية المسلحة منها والفكرية رئيس حملة السكينة السعودية عبد المنعم المشوح الذي أشرف بنفسه على محاورة الجيل الأول من كبار تنظيم القاعدة، ومن يليهم من الصفوف الثانية عبر آلاف الساعات، التي قضاها هو وفريقه لمحاورة نحو بضعة آلاف متطرف في 800 موقع ومنتدى، يحتفظون بمخزون هائل من محاوراتهم مع فريق حملة السكينة. المخزون الهائل من المعرفة الذي كونته الحملة على مدى عقد من السجال مع القاعدة في السجون وعبر النت، يجعلها واحدة من أكثر المؤسسات غير الحكومية دراسة وخبرة بنوايا المتطرفين وطرائق تفكيرهم، وأساليب إدارتهم لأزماتهم، ما دفع المشوح إلى الجزم بأن «موتة أسامة ستشكل منعطفاً خطراً في ما يعرف بالتيار الجهادي، ففي الوقت الذي كانت مرجعية أسامة والرعيل الأول الذي يقوده إسلامية صرفة على رغم خطئهم في التفسير، نواجه حالياً مع الجيل الحالي من التنظيم تخبطاً فكرياً وحركياً لا يبشر بأن الأزمة ستؤول إلى الانفراج». ورجح أن التوجه الذي ستذهب إليه شبكات تنظيم القاعدة، هو إعلان كل طرف لإقليمه «إمارة» فسنجد إمارات في كل من اليمن، والمغرب الإسلامي، وليبيا، وأفغانستان، إلى جانب مواطن أخرى، ويعود ذلك إلى أن شبكات الأطراف لا تثق ولا تحترم أيمن الظواهري الذي بقي من القيادات الكبرى للتنظيم بعد مقتل أبي حفص وأسامة بعده. ورأى المشوح أن تصوره إذا ما تم فإن المسؤولين عن التعاطي أمنياً وفكرياً مع تنظيم القاعدة سيترحمون على الواقع الذي كان عليه التنظيم من قبل، فقبل مقتل أسامة كانت القاعدة ذات قرار شبه موحد، يمكن اختراقها أو عقد صفقات معها، أو إجراء أي تنسيق معها. هذا فيما اتصل بالشبكات بعد مقتل أسامة، أما تنظيم القاعدة بشكله السابق فإن المشوح يرجح أنه في تراجع متواصل، وجاء مقتل أسامة كنقطة في آخر سطره. وكأن خبير السكينة يجزم بأن دولة القاعدة انتهت بموت الزعيم الذي لم يترك خليفة من بعده، ليعقبها «دويلات القاعدة القطرية»، على طريقة النظام العربي بعد انهيار الخلافة الاسلامية! أما المفاجأة الأخرى التي يجزم بها المشوح مجدداً، فهي اعتقاده بأن تنظيم القاعدة على مر أسابيع مضت قتل فيها أبو حفص والرجل الأول في الشيشان حتى بعد يومين من مقتل أسامة بن لادن، لم تكن منشغلة بالتحضير للانتقام أو محاولة الثأر لمقتل أهم زعمائها دفعة واحدة، وإنما يظهر أنها منغمسة أكثر في إعادة تنظيم صفوفها والتحضير لمرحلة التقسيم المنتظرة، خصوصاً وأن الحوارات السرية مع الجيل الجديد من التنظيم، تلمح إلى ضيقها منذ فترة من القاعدة الأم، بسبب تقييدها لبعض توجهاتهم وخططهم وأهوائهم وطموحاتهم المحلية الضيقة. ولا يستبعد عبد المنعم المشوح أن تكون الصورة تلك هي ما يريد الغرب تعزيزه، فبينما كان التنظيم مشكلة عالمية أصبحت مواجهته من مسؤولية الدول الكبرى، بات من المجدي بعد صعوبة الحسم، تحميل كل منطقة أو دولة مسؤولية مكافحة أو تطهير محيطها من العناصر الإرهابية، فيما سيبقى دور العالم الغربي هو الضغط على الدول وتصنيفها ومساعدة من يشاء، وطبق ذلك عملياً مع تنظيم المغرب الإسلامي. وعلى هذا الصعيد فإن المشوح الذي كان بين أكثر الأفراد بذلاً للجهد في مكافحة الإرهاب فكرياً، يرى مقتل أسامة بن لادن على ما أحيط به من تساؤلات، أمراً ليس بالضرورة أن يكون في صالح مكافحة الإرهاب، إذا ما صح تحليله. وفي جانب الخليفة المنتظر وما يمكن أن تفعله «القاعدة» لتعويض خسارتها أسامة، يرى المشرف على مركز الدين والسياسة للدراسات خالد المشوح، الذي كان هو الآخر من بين الناشطين في محاورة المتطرفين إلكترونياً، أن «أسامة بن لادن لا يعوض»! وقال: «مقتل أسامة بن لادن الرجل الأول في تنظيم القاعدة والأب الروحي للتنظيمات الجهادية يشكّل خسارة كبيرة وفادحة للتنظيم والتنظيمات المتفرعة منه، والتي طالما اعتمدت على كاريزما الرجل الأول وتاريخه الطويل في القتال في أفغانستان في استقطاب أتباع جدد والترويج لأيديولوجيتها»، منوهاً إلى أن هذا لا يعني انهيار التنظيم بقدر ما سيؤدي لانحسار الأضواء الإعلامية عنه، وهو الأمر الذي قد يؤدي لخلق بيئة أفضل من العمل وتعزيز الوجود والنفوذ بعيداً عن الأضواء». ولفت المشوح إلى أن التنظيم «يعمل الآن على محاولة تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستفادة من خلال توظيف شخصية ابن لادن التاريخية والرمزية في كسب تعاطف إيجابي، فمنذ اللحظات الأولى من إعلان الولاياتالمتحدة نجاح العملية التي استهدفت المجمع السكني الذي كان يختبئ فيه بباكستان والتي أسفرت عن مقتله، رصد مركز الدين والسياسة للدراسات مناقشات ودعوات عدة عبر المنتديات والمواقع الجهادية التابعة للتنظيم أو التي ينشط فيها أتباعه تدعو إلى تكثيف نشر المواد التي تتحدث عن سيرة ابن لادن وتاريخه، وكذلك التسجيلات الصوتية والمرئية والرسائل المكتوبة، لاسيما التي تسلّط الضوء على احتلال البلدان العربية والإسلامية والجرائم التي ارتكبها الغرب وأميركا بحق المسلمين، وتحث على قتال اليهود والصليبيين وتحرير البلدان العربية والإسلامية المحتلة». وهذه الدعوات بحسب المشوح «لاقت استجابة سريعة، فلاحظنا مشاركة فاعلة في شبكات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك»، عن طريق إنشاء العشرات من الصفحات التي تحمل اسم ابن لادن واجتذبت الآلاف من المتعاطفين الذين لا يحملون أية أفكار جهادية أو سبق لهم الانضمام أو المشاركة في مواقع أو تنظيمات من هذا النوع، واحتوت هذه الصفحات والمجموعات الإلكترونية على دعوات وتهديدات بالثأر لابن لادن في محاولة لاستغلال العواطف وتوجيهها، لاسيما في ظل الانقسام الظاهر في الرأي العام في العالم العربي حول استشهاد ابن لادن وما رأيناه من تباين في المشاعر والتصريحات بين الفرح والحزن لمقتله». ويعتقد المشوح أن حالة الانقسام الجماهيري حول ابن لادن «انعكست على تصريحات بعض المشايخ والدعاة أصحاب الجماهيرية الكبيرة فآثر بعضهم الصمت وعدم التعليق، في ما خرج آخرون بتصريحات محايدة لا تحمل رأياً صريحاً يدين ابن لادن وفي الوقت نفسه لا تظهر تأييداً له، وهو ما يمكن أن نعزوه إلى الخشية من جماهيرية ابن لادن». وفي ما يتعلق بعلاقة القاعدة بالثورات العربية وتأثير مقتله في أحداثها يقول المشوح: «من المبكر جداً الحديث عن مثل هذا الأمر، فكل الثورات العربية لم تتضح معالمها بشكل كبير، وحتى التي حققت نجاحاً ملحوظاً لم تصل للحد الذي يمكن القول معه إنها حققت أهدافها، وربما تكون حادثة مقتل ابن لادن منعطفاً جديداً يمكن استثماره للدخول على الخط، لاسيما في بعض البلدان التي لا يزال الأمن فيها ضعيفاً لتحقيق قدر من الاستفادة وإثبات أن مقتل ابن لادن لن يزيدهم إلا إصراراً وقوة في تحقيق منهجه». ومن جهة أخرى يرى خبراء في الجماعات الدينية أنه ليس هناك ما يستدعي المبالغة في أثر مقتل ابن لادن على تنظيم «الإرهاب»، فهو أشبه بالميت منذ زمن بعيد، خصوصاً بعد الثورات العربية، حتى أصبح انتقاده شائعاً بين الذين كانوا مقربين منه، وإذا لم يكن إخراج قتله عاملاً يعيد الأضواء إلى «القاعدة»، فإنه يصعب الجزم بأنه يلحق بها خسائر فادحة، خصوصاً أن أحاديث تجري عن محاولات استثمار مقتله من جانب كل الجماعات المتطرفة، بما فيها طالبان التي يعتبر رئيسها الملا محمد عمر أمير المؤمنين الذي يدين له أسامة بالطاعة والولاء، فيما يعد هو القائد الميداني للتنظيم العالمي.