إذا أراد السيد الأخضر الإبراهيمي خدمة «سيده الوحيد»، الشعب السوري، على ما قال في تصريح له قبل أيام، فسيكون عليه العودة أولاً إلى أصول المسألة السورية. خرج السوريون معترضين على نظام استبدادي شديد العدوانية، يحكم منذ 42 سنة البلد العربي الوحيد الذي جرى توريث الرئاسة فيه عائلياً. أكثر الثورات العربية تفجرت في بلدان حكمها طغاة كانوا يعتزمون توريث مناصبهم لأبنائهم أو مَنْ في حكمهم، ونجحت في إسقاط هذا النكوص المشين. القضية في سورية هي ثورة ضد هذا الطغيان، يلخصها شعار رفع في بداية الثورة: الله، سورية، حرية وبس! مقابل شعار الموالين: الله، سورية، بشار وبس! وهو ما يجسد علاقة النفي المتبادل بين بشار والحرية: حيث الحرية لا بشار، وحيث بشار لا حرية للسوريين. وقد تكثف هذا أيضاً في شعار آخر شهير لا شك في أن الإبراهيمي يعرفه: «الأسد أو لا أحد»، أي حيث لا بشار فلتكن سورية يباباً، أرضاً محروقة على ما تقول صيغة أخرى للشعار ذاته. والبرنامج المضمن في هذا الشعار هو ما يجري تطبيقه فعلاً. فإن كان لسورية أن تبقى بلداً ودولة، وهو ما نفترض أن الديبلوماسي الجزائري يسعى إليه، فينبغي أن يرحل الأسد. قد تبدو هذه استدلالات منطقية في مجال قلما يجدي فيه المنطق: السياسة. ولكن، من دون انضباط بالمنطق لا تستقيم السياسة، تغدو مجالاً مباحاً للقوة العارية والاعتباط، وهو الواقع في سورية اليوم، وهو ما اقتضى مهمة الإبراهيمي أصلاً. لا يستقيم أن من يداوم على قتل السوريين منذ سنة ونصف سنة يبقى رئيسهم، ولا يستقيم أن يقصف نظام أحياء مدنه وبلداته بالطيران الحربي ثم يبقى حاكماً. إذا لم نستند إلى مقدمات وأصول ثابتة مثل عدم جواز قصف المدن بالطائرات والدبابات، أو تحريم اغتصاب نساء وأطفال في المعتقلات (وهذا وقائع مثبتة)، فإنه لا شيء يستقيم، وسنصل إلى الخراب العام. لا يلزم أن يكون الواحد منا ثورياً كي يقول ذلك. يلزم فقط القبول بأن هناك منطقاً في الأمور، هو أن هناك ما يستقيم وما لا يستقيم، وأن الإصرار على إقامة ما لا يستقيم هو باب للعنف حصراً. الجمهورية لا تصير مملكة إلا بالعنف، وقوانين الاستثناء لا تدوم عقوداً إلا بالإكراه، والطاغية الصغير لا يغدو عظيم شعبه وسيد وطنه إلا بتعنيف الأجساد والنفوس. الأسد هو قرين للعنف أو معادل له بمقدار ما إنه قام على أحوال استثناء دائمة وعلى قلب الجمهورية ميراثاً وعلى رفع الألثغ الركيك فوق مرتبة البشر. والبدائية السياسية في بلدنا والعالم العربي متولدة عن انفصال السياسة عن المنطق العام، وعن أي منطق خاص بها (عمومية الدولة وبشرية الحاكمين ومسؤوليتهم والتساوي بين المحكومين...)، تترابط فيه نتائج بمقدمات، وينضبط بأصول عما يجوز ولا يجوز. التقدم السياسي ممتنع من دون ذلك. وفي سورية اليوم ثورة واسعة جغرافياً وبشرياً، سقط خلالها فوق ال25 ألفاً من السوريين الذين يبدون ماضين في ثورتهم لا يوقفهم شيء. ما يعني أن شجاعة الشعب الثائر وآلامه تؤازر المنطق في وجوب أن يرحل السيد بشار الأسد، وكلما تحقق ذلك في وقت أبكر كان أحسن. الأرجح أن الإبراهيمي سمع من المسؤولين السوريين كلاماً عن مؤامرة خارجية، وعن إرهابيين محليين ووافدين، وعن أن سورية (= النظام) مستهدفة بسبب مواقفها... إلخ. كذب صرف. ولعله لو تفحص ما يسمعه بمعايير المنطق المجرد أو بمعيار الدولة الحديثة لوجد أن الثابت الوحيد وراء ما سمع وسيسمع هو إرادة بشار الأسد وطاقمه البقاء في حكم البلد إلى الأبد، ومن دون حساب أو مساءلة من أحد. هذا غير إنساني ولا يستقيم. للسياسة مطرح مع ذلك: كيفية خروج بشار الأسد، وآليات التغيير السياسي في البلد، ومَن قد يجري التفاوض معهم من جهة النظام. ولكن، ينبغي ألاّ يكون بقاء بشار وفريقه من مسؤولي القتل الرئيسيين موضوع تفاوض، إن كان للمهمة أن تثمر ولسورية أن تنجو. هذا ليس اشتراطاً تحكمياً ولا تفضيلاً ذاتياً، وإنما هو مقتضى منطقي لتخليص سورية من العنف، وهو النقطة الأساسية في مهمة الإبراهيمي. العنف هو بشار الأسد، كشخص وكاسم للنظام. سلام لسورية والسلام في سورية يعني انصراف بشار الأسد. فإذا تقرر هذا المبدأ، زال كل عائق أمام السياسة والمبادرات السياسية، وصار الإبراهيمي شخصياً في موضع قوة لاشتراط أي شيء على الثائرين السوريين. نذكّر الديبلوماسي الجزائري بأن سلفه كوفي أنان أقرّ من دون لبس، بعد أن تحرر من ضغوط منصبه كموفد عربي ودولي، بأن على بشار الأسد أن يتنحى عن الحكم من أجل حل «الأزمة السورية». سيحسن الإبراهيمي إلى نفسه ومهمته إن انطلق من هنا، وسيذكره السوريون والتاريخ بأنه الرجل الشجاع الذي قال ما يجب أن يقال، ولم يخلط بين الديبلوماسية كأسلوب ناعم وبين المنطق القاسي الذي يقضي برحيل بشار لإنقاذ سورية. قد يقال إن ليس هناك منطق في السياسة يعلو على موازين القوى. هذا صحيح من وجهة نظر المحللين والمؤرخين، وليس من وجهة نظر السياسة كعمل. والإبراهيمي يقوم بمهمة سياسية عملية. فإن كانت سياسة الرجل تجسيداً لموازين القوى من دون مبالاة بأية مبادئ وأصول سياسية وإنسانية، فإن بشار الأسد هو من يجسدها، وإن استمراره في «الحسم» منذ سنة ونصف سنة هو تحقيق لموازين القوى. ولا حاجة عندئذ إلى مهمته من الأصل. السلاح الذي يحطم سورية اليوم هو سلاح النظام الحربي الذي دفع ثمنه السوريون المقتولون، وسقوطه هو ما يمكن أن ينقذ البلد. لا وجه أخلاقياً أو سياسياً للاعتراض على تسليح «الجيش الحر»، على ما فعل الإبراهيمي، من دون توقف القوات الأسدية عن عدوانها. في سورية ثورة في مواجهة نظام قاتل مدعوم من قوى إقليمية ودولية متوحشة. يحتاج الإبراهيمي إلى شجاعة وخيال كي لا يكون مجرد وسيط بين نظام قاتل وثورة شعبية. فرص مهمته في النجاح أكبر، إن فكر بمنطق العدالة لا بمنطق البيروقراطية الدولية.