قرية صغيرة، تقبع هادئة بين يدي الجبال الخضراء في ريف سورية، بيوت جميلة متناثرة بين الأشجار والطرقات، تتنافس مع بعضها البعض لتحظى بمتعة السير إلى جانب النهر المزين بقوارب الصيادين، تتعانق ضفتا النهر بجسر حجري قديم، ترنو حجارته من الماء بخجل طامعةً أن تصافح قطراته اللؤلؤية، وعلى الجانب الآخر من النهر يطل مسجد القرية بإجلال رافعاً مئذنته نحو السماء، وهالة من الضياء تلف المكان، أهل القرية بسطاء، يدلي أحدهم بصنارته في النهر منتظراً رزق عياله، عجوز تحادث جارتها في الطريق من شرفة منزلها، امرأة تمشي مع ابنتها الصغيرة، يمر بجانبها رجل يحمل أرغفة الخبز الساخنة عشاءً لصغاره، ويشق الهدوء ضحكات أطفال تجمعوا عند شاطئ النهر للعب الكرة، وغير بعيد عنهم وقفت «مروة» ذات التسع سنوات تتطلع بعينين جذلتين لأخيها «علاء الدين» الذي يصغرها بعامين وتلوح له كلما أحرز فريقه هدفاً، نادته مروة أخيراً: «علاء، لنذهب الآن فأمي بانتظارنا مع العشاء». في المنزل تستقبلهما أمهما بابتسامة شوق، وصدر حوى الدنيا، تجري مروة نحو ذراعي أمها لتتلقفها بذراعين مفتوحتين، وتطبع الأم قبلة حانية على وجنة مروة: «أمي كم أحبك»، «يا صغيرتي الحلوة!» هكذا ترد الأم كلما قالت لها مروة إنها تحبها، يزاحم علاء مروة على حضن أمهما: «علاء كم تغار من أختك، قلبي مقسوم نصفين، نصف لمروة والنصف الآخر لك»، فيضحك علاء. كانت السعادة الفرد الرابع في منزلهما، فبعد وفاة الأب أرادت الأم أن تكون كل شيء لهما، وشاء الله أن تثور سورية ضد الظلم، وتطال نيران الحرب المستعرة قريتهم الآمنة، حاصر جيش النظام السوري القرية المسالمة لشهور طويلة روع فيها الآمنين، لكن أهلها، رجالاً ونساءً، استماتوا في الدفاع عنها، حتى الأطفال تعلموا معنى الثورة وأبجديات الحرية والكرامة. كان القصف الأْعمى يصيب من يصيب ويقتل من يقتل، ويهدم البيوت، ويحرق الأشجار، ويغتال براءة الأطفال، حتى مسجد القرية غيب مئذنته القصف. وطال الحصار، بلا غذاء أو ماء أو دواء، قريتهم صارت سجناً كبيراً والعالم حولهم في شجب واستنكار لا يتجاوز الحناجر. ذات ليلة بلا أقمار قتلت مروة... قتلتها رصاصة قناص أصابت عينها اليمنى، وأصبح فؤاد أمها فارغاً، وتضع الحرب أوزارها بانتصار ثورة المستضعفين. لكن الحزن أصبح الفرد المقيم في الأسرة، ذبلت زهرة الأم كلما تذكرت أصداء ضحكات ابنتها تملأ البيت. تذكرت الضجيج والصخب الذي تحدثه مروة عندما تلعب مع علاء، ولطالما نبهتهما ليحافظا على الهدوء، والآن تشتاق لما كانت تجده إزعاجاً، وتظل الأم تناجي مروة في عالمها الغيبي علها تسمعها يوماً: «مروة، يا صغيرتي الحلوة، عودي لأمك التي تشتاق إليك، أرحمي حالها»، أما علاء الذي خرج بسنينه السبع في كل مظاهرة ليصرخ في وجه الظلم، لم يعد يزاحم مروة كلما غاص برأسه في صدر أمه، لكنه يشتاق لها كثيراً فتنساب دموعه وتختلط بالأحزان التي تسكن صدر أمه... كم مرة خال له صوت أمه بعد أن يهجع الأنام تردد مناجاة ابنتها: «صغيرتي الحلوة، تأكدي أن فراقنا لن يطول». [email protected] @manal_alsharif