قبل نحو 20 سنة، تحديداً في شباط (فبراير) 1993 في حين كان الكيان الكردي العراقي يتشكل وتتحدد معالمه، اعتبر الباحث الأميركي البارز في شؤون الشرق الأوسط والحركات الإسلامية غراهام فولر أن التعامل مع ما وصفه ب «المعضلة الكردية» لم يعد أمراً يحتمل التأجيل، كونها أخذت تفرض نفسها على أولويات أجندة الشرق الأوسط، وللمرة الأولى في التاريخ المعاصر خرجت السيطرة عليها من ايدي جميع الأطراف الاقليمية لأنها اكتسبت زخماً ذاتياً، على حد توصيف فولر. فهل ما يجري في المنطقة حالياً يعني ان هذه المعضلة ارتقت بالفعل الى رأس قائمة أولوياتها؟ فولر طرح تصوراته وتوقعاته آنذاك في دراسة نشرتها مؤسسة «راند» الفكرية الاميركية عنوانها «الكرد ومصير الشرق الأوسط»، تضمنت رؤية ثورية لتطورات محتملة اعتباراً من العقد الأخير للألفية الثانية. فالكرد باتوا، كما توقع فولر، يطرقون باب الاعتراف الوطني والحق في تقرير المصير، الأمر الذي من شأنه أن ينطوي على أكثر العواقب الجدية بالنسبة الى الدول التي يعيشون فيها متجاوزة «الزخم السياسي الكردي» الى تحديات ما بعد الحرب الباردة، كالانفصالات المحتملة للحركات الإثنية وحقوق الانسان ومعاملة الأقليات والديموقراطية والحكم الذاتي الثقافي والفيدرالية «وحتى ولادات محتملة لدول جديدة تنهي وحدة أراضي دول قديمة». وهذا التوقع الأخير تحقق بانفصال الجنوب عن السودان وميلاد جمهورية جنوب السودان المستقلة. حين صدرت دراسة فولر، كان اقليم كردستان يسمى «الملاذ الآمن» أو «المنطقة الواقعة شمال خط العرض 36» أو «منطقة الحظر الجوي» (فرضتهما الولاياتالمتحدة لحماية السكان الكرد من جهة ولمراقبة التحركات العسكرية لنظام صدام حسين في بغداد من جهة أخرى)، أو في أحسن الأحوال «ادارة شمال العراق»، علماً ان تركيا كانت تُعتبر «الشريان الحيوي» الوحيد للاقليم ويعتمد الدخول اليه والخروج منه على الجارة تركيا التي كانت تغلق «الشريان» أو تفتحه وفق مزاجها المتقلب ودلالها ومساعيها من أجل انتزاع مكاسب وتنازلات من حليفها الأميركي، وقبل كل شيء مواجهة مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين حشرهم الاتراك وأشقاؤهم كرد العراق على السواء في زاوية حتى كاد الجميع يقرأ الفاتحة، لا على روح حركة الحزب المسلحة فحسب، بل على روح الحركة الكردية نفسها في تركيا. الى ذلك يمكن اضافة معلومات وحقائق لا يُحصى عددها للتدليل على ما كانت الحركات الكردية تواجهه من عزلة وقمع وتجاهل وتحجيم يصل احياناً الى حد انكار وجود الكرد. في الجمهورية الاسلامية تعرض الكرد وما زالوا يتعرضون للاضطهاد. وفي سورية اخترع نظامها باسم العروبة والبعث منذ الستينات من القرن الماضي ما سُمي «الحزام العربي» لتطويق المناطق الكردية ورفض اعتبار الكرد مواطنين سوريين، بل قُدّموا كلاجئين من تركيا لا يستحقون منحهم الجنسية السورية (وهذا العقاب الأخير سبق قيام حكم البعث بسنة). من نافلة القول الحديث عن التغيرات التي شهدها العراق بإطاحة نظام صدام حسين في 2003 والتطورات الدراماتيكية في اقليم كردستان: برلمان وأحزاب تحكم وأخرى تعارض وقنصليات وعلاقات دولية وطرق جوية بينه وبين دول المنطقة وأوروبا واستثمارات فيه لمئات الشركات الاقليمية والعالمية بما فيها شركات نفط غربية كبرى، خصوصاً اقامة علاقات مميزة سياسية واقتصادية بين الاقليم وتركيا التي صارت فيها احزاب كردية لها تمثيل برلماني علني، فيما تعترف أنقرة بأن المسألة الكردية باتت القضية الأولى التي تواجهها الدولة التركية اليوم. وعلى صعيد المنطقة ككل، حل «الربيع» العربي أولاً في تونس ثم ليبيا ومصر فيما عصفت أزمات باليمن وبعض دول الخليج والجزائر والأردن، وجاءت الثورة السورية كي تضع النظام البعثي في مهب الريح مع ما سيتبع سقوطه من عواقب. هذا كله يقودنا مجدداً الى الموضوع الأصلي لهذا المقال، اي الكرد وموقعهم في الشرق الأوسط المتغير في ظل الترابط بين التحركات الكردية في العراق وتركيا وسورية، وقد تنضم اليها ايران في مرحلة لاحقة لجهة طموحات الكرد الآنية والمستقبلية، بما في ذلك تحقيق كيانات منفصلة او تحقيق الهدف الأكبر المتمثل بالدولة الوطنية. وعودة الى دراسة فولر التي بدأنا بها هذا المقال: فهو استنتج أن خيارين سيفرضان نفسيهما على الشرق الأوسط. وقتها افترض فولر ان الكرد قد يستطيعون أو لا يستطيعون تحقيق دولة وطنية في أي من أجزاء كردستان خلال العقود المقبلة، لكنه اعتبر ان الجواب اياً كان عن هذا السؤال سيكون مهماً جداً كونهم رابع أكبر قومية في الشرق الأوسط. فإذا كانت الدولة هي الجواب سيتعين الاستعداد لتغييرات جيوبوليتيكية وجغرافية تشمل العراق وتركيا وإيران (واضح ان أحداً لم يكن يتخيل ان كرد سورية سيكونون في قلب التطورات المحتملة في مؤشر الى زخم كردي اكتسب حيوية جديدة). وليس صعباً تصور العقبات الكبرى والثمن الذي يتحتم دفعه أمام مثل هذا الحل. لكن حتى اذا كان الجواب «لا» للدولة، فإنه لا يقل «ثورية» عن الجواب ب «نعم» من وجهة نظر فولر. ونذكر باستنتاج فولر إذا كان الجواب ب «لا»: فهذا يعني انه يتحتم على الدول الرئيسة في المنطقة القبول بقيام نظام جديد يمكّن الكرد من تحقيق متطلباتهم القومية: ترتيبات فيدرالية وحدود مفتوحة بين مناطقهم في الدول المعنية تمكّنهم من التنقل بينها بحرية. تحقيق هذا الوضع شرطه شرق أوسط يتشكل من دول لا تحتاج الى القوة والعنف والانظمة الاستبدادية وأساليب القمع للحفاظ على وحدة الدولة وضمان ولاء مواطنيها. بعبارة أخرى قبول هذه الدول بفيدرالية تنزع المركزية عن انظمة «استبدادية مغرورة» خنقت اقتصادات المنطقة وشوّهتها طويلاً، على حد تعبير فولر. يبقى ان نختم بالقول ان التطورات الأخيرة وظهور مؤشرات الى تفتت أكثر من دولة في المنطقة قد تلقي بظلالها على الاحتمالات السالفة. لكن في اي حال، فإن طموح الكرد إلى احتلال موقع خاص في الشرق الأوسط يضعهم أمام محك الرهان الصعب على الخيار الصحيح.