في كل مرة تتفجر أزمة سياسية – طائفية جديدة في العراق، تحديداً بين عربه الشيعة والسنّة، يتجدد الحديث عن خيارات الكرد البديلة من بقائهم ضمن دولة العراق بما في ذلك خيار اعلان دولة كردستان المستقلة. هذا الخيار ليس جديداً. فهو طُرح إثر اطاحة النظام البعثي في نيسان (ابريل) 2003 على اساس أن الكرد سيقدمون على إعلان دولتهم مستغلين فرصة الفوضى الناجمة عن تفكيك مؤسسات الدولة، خصوصاً قرارت سلطة الاحتلال حل الجيش والحرس الجمهوري وأجهزة الأمن والاستخبارات واجتثاث البعث حزباً وأيديولوجية. وفيما كان العراق العربي يتخبط وسط تلك الأجواء كان الكرد يتمتعون باستقرار نسبي بفضل كيانهم الفيدرالي المعلن من جانب واحد في عام 1992. خيار الانفصال أثير قبل ذلك ايضاً إثر هزيمة العراق في الكويت وقرار صدام حسين سحب الأجهزة العسكرية والمدنية المركزية من محافظات أربيل والسليمانية ودهوك التي شكلت لاحقاً اقليم كردستان. لكن الكرد أجروا انتخابات مستقلة قرر على أثرها برلمانهم المنتخب في أيار (مايو) 1992 اعتبار المحافظات الواقعة تحت سلطتهم إقليماً فيدرالياً في اطار دولة العراق، وهو وضع اعترف به الدستور العراقي الجديد الذي وضع في 2005 وصادق عليه الشعب في استفتاء أُجري في السنة ذاتها. منذ ذلك الحين والحديث عن انفصال كردستان يتجدد بين آونة وأخرى ليس كردياً فقط، بل عراقياً وإقليمياً وحتى دولياً. البعض يثير الموضوع لاعتبارات قومية مشروعة. بعض آخر يثيره تضامناً مع الكرد الذين يشكلون أكبر شعب في منطقة الشرق الأوسط وربما في العالم (25 - 40 مليوناً وفق تقديرات مختلفة في ظل غياب احصاءات موثقة) لا يتمتع بدولته الوطنية. بعض آخر، تحديداً في العراق ومحيطه العربي، يعتبر مجرد خيار الفيدرالية، ناهيك عن الدولة، «مؤامرة» لتقسيم «الوطن العربي» لمصلحة «الكيان الصهيوني»، الأمر الذي يبرر، من وجهة النظر هذه، قمع الكرد عقاباً على طموحاتهم الانفصالية الخيانية. إقليمياً لم يختلف الأمر كثيراً وكانت تركيا، الخائف الأكبر، تعتبر ان مشروع دولة كردية في العراق كارثة تهدد وجود الجمهورية التركية. لكن «كل حال يزول» كما تقول الاغنية الشعبية للمنولوجست العراقي الأشهر الراحل عزيز علي. فالفيدرالية بات حديثها عادياً خارج الوسط الكردي. فإذ يزداد الخوف من إحكام الغالبية الشيعية قبضتها على المركز، اصبحت الفيدرالية مطلباً شعبياً للعرب السنّة لضمان أمنهم وتمكينهم من ادارة شؤون محافظاتهم بأنفسهم، مشيرين الى نجاح تجربة اقليم كردستان بعدما كانوا الى وقت قريب يشاركون محيطهم العربي الخارجي والاقليمي اتهام الكرد ب «جريمة» الفيدرالية. لعل التغيير الأهم في الموقف من الفيدرالية هو ما يحدث في تركيا. على صعيد العرب لا وقت لأنظمتهم للاهتمام بما يجري في العراق فيما هي تنصرف كلياً لمواجهة «الربيع العربي». لكن لا خوف في أنقرة من «ربيع تركي». اليوم المشكلة الرئيسة التي تواجهها تركيا في الداخل تتمثل في ايجاد حل لقضيتها الكردية. وفي هذا الاطار بات كل الخيارات مطروحاً على بساط البحث والنقاش والاتصالات بما في ذلك «حوارات» بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني عبر ممثلين عنه في أوروبا وحتى مع زعيمه المسجون في أحد سجونها منذ عشر سنوات عبدالله أوجلان. بل لم يعد محرماً على القيادات الكردية العراقية أن «تتدخل» في الشأن التركي الداخلي عبر نصائح واقتراحات متبادلة بين الطرفين لإيجاد حلول للقضية الكردية – التركية. في السياق ذاته لم تعد أنقرة تشعر بالغضب، كما في السابق، حين يتحدث مسعود بارزاني مثلاً عن مشروعية تطلع الكرد الى اقامة دولتهم الوطنية. وللمقارنة، يُشار الى ان زعماء اتراكاً كانوا قبل عقد فقط يحذرون الكرد من انه لا يجوز لهم التفكير بدولة حتى في أحلامهم. أكثر من هذا كله أن البعض في تركيا بات يناقش علناً في وسائل الاعلام احتمال قيام دولة كردستان في العراق تحت حماية تركيا. طبعاً لم يصل الأمر الى ان يعكس مثل هذا التوجه موقفاً رسمياً في أنقرة، لكن عدداً متزايداً من المعلقين والكتاب الأتراك باتوا يثيرون الموضوع كاحتمال يمكن ان ينجم عن تفكك العراق الى ثلاثة كيانات، شيعي وسنّي وكردي، في حال تفاقمت الأزمة العراقية الى حد يصبح معه من الصعب الحفاظ على وحدة البلاد. هنا يمكن تركيا أن توفر الحماية للكرد والسنّة في مواجهة النفوذ الايراني الذي سيصبح أمراً واقعاً في عراق يحكمه الشيعة. واحتمال كهذا يمكن ان يؤدي الى «قيام كردستان مجاورة لتركيا تحت حمايتها» وفق مقال نشر منذ ايام للبروفيسور ممتازير توركوني، وهو أكاديمي ومعلق بارز في صحيفة «زمان» التركية التي تعتبر قريبة من قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم. وهو في الحقيقة واحد من كتّاب أتراك كثيرين يتناولون هذا الموضوع هذه الايام. الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال كانت تخالجه افكار مشابهة لكنه لم يتجاسر على طرحها علناً على رغم ما عُرف عنه من جرأة في طروحاته المتحدية للنخب الحاكمة والاجتماعية، بل كان يتحدث بها على نطاق محدود. من ذلك أنه اشار ذات مرة في لقاء خاص مع كاتب هذه السطور في 1991، الى أن تركيا هي الامتداد الطبيعي لحماية كرد العراق وتركمانه لأنهم في حاجة اليها تجاه العرب السنّة الذين يوفر الحماية لهم الامتداد السعودي والاردني فيما يوفر الامتداد الايراني الحماية للعرب الشيعة. في كلتا الحالين، الأوزالية والأردوغانية، هناك في النهاية حسابات براغماتية تأخذ في الاعتبار مصالح الأمن القومي للدولة بما في ذلك التعامل مع قضيتها الكردية الداخلية. ولا تختلف الحال بالنسبة الى الكرد، على رغم أن دولتهم الوطنية ما زالت مشروعاً يحتاج في حال تحققه الى شريان للحياة في شكل حليف قوي يوفر الحماية لدولة لا منفذ بحرياً لها. والسؤال الذي يطرح نفسه على الكرد هو: من سيحميها؟