رفع المصرف المركزي الأوروبي الأسبوع الماضي سعر الحسم من 1.25 في المئة إلى 1.5 في المئة على رغم الشكوك في عافية الاقتصاد الأوروبي. لكن المسؤولين في المصرف انحازوا إلى سياسة محاربة التضخم الذي بلغ مستوى 2.7 في المئة في منطقة اليورو في حزيران (يونيو) الماضي. وعلى رغم أن هذا المستوى يظل مقبولاً ومعقولاً، فهو يزيد على مستوى التضخم المنشود من قبل المصرف المركزي وهو 2.0 في المئة. لا شك في أن الموازنة بين محاربة التضخم وحفز النشاط الاقتصادي تشغل صانعي السياسات الاقتصادية، خصوصاً النقدية منها، في مختلف البلدان الرئيسة، من الولاياتالمتحدة إلى البلدان الأوروبية إلى اليابان والصين وغيرها من البلدان التي تعتمد النشاطات الاقتصادية فيها على التمويل الذي تحصل عليه لدعم أعمالها وتوسيعها. لكن هناك بلدان أساسية مثل بريطانيا قررت الإبقاء على سعر الحسم من دون تغيير عند مستوى منخفض يساوي 0.5 في المئة نظراً إلى المصاعب التي تواجه الاقتصاد البريطاني وارتفاع أعداد العاطلين من العمل بعدما تبنت الحكومة سياسات تقشفية ستُطبق على مدى السنوات المقبلة. ولن يكون ممكناً تعديل سعر الحسم في بريطانيا قبل أن يشعر المسؤولون هناك بتحسن الأداء الاقتصادي وتمكن الوحدات المختلفة في العديد من القطاعات الاقتصادية من إيجاد فرص عمل وتحسين مستوى الاستهلاك العائلي في البلاد. يتساءل عدد من الاقتصاديين ورجال الأعمال والسياسيين عما إذا كان المصرف المركزي الأوروبي أخذ في الحسبان مسألة الديون السيادية في عدد من بلدان منطقة اليورو عندما اتخذ قرار رفع سعر الحسم. لا بد أن متخذي القرار أيقنوا أن الديون السيادية التي تواجه عدداً من بلدان منطقة اليورو ستظل قائمة مهما اتخذت من قرارات بخصوص سعر الحسم، وأن أي قرار لن يكون ذا جدوى بهذا الخصوص ما لم تُتخذ إجراءات مهمة في سياق السياسات المالية في هذه البلدان يعيد فلسفة الإنفاق إلى مجريات رشيدة. لكن التضخم في أوروبا وإن بدا معقولاً إلا أن إمكانات ارتفاع مستوياته تظل قائمة بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وأسعار الوقود، ولذلك لا بد من تفعيل السياسة النقدية للحد من تدفق الأموال إلى قنوات الاقتصاد في صورة غير مقبولة. وإذا كان المصرف المركزي الأوروبي اتخذ هذا القرار ورفع سعر الحسم إلى 1.5 في المئة فإن سعر الحسم في الصين بلغ 6.56 في المئة في وقت يرتفع معدل التضخم في صورة متسارعة. ولا شك في أن الاقتصاد الصيني الذي بلغ حجماً مهماً وأصبح الاقتصاد الثاني لجهة قيمة الناتج المحلي الإجمالي بعد الولاياتالمتحدة، بعدما بلغ هذا الناتج 5.7 تريليون دولار عام 2010، ولا يزال ينمو بمعدلات سنوية عالية، يفوق متوسطها 10 في المئة، فهذا الاقتصاد لا بد من أن يعاني من مظاهر التضخم ويزيد من أعباء المعيشة على المواطنين، خصوصاً في المناطق الفقيرة البعيدة من الساحل. الأوضاع في الولاياتالمتحدة تبدو معقدة أيضاً. فهناك عجز قياسي في الموازنة الفيديرالية يدور حول 1.4 تريليون دولار لهذا العام، وهناك جدل بين السياسيين من الحزبين حول الحد الأقصى للدَّين العام، وصلاحيات الإدارة التنفيذية بالاقتراض لتمويل العجز. وتدور نقاشات وجدالات بين الاقتصاديين حول كيفية التعامل مع السياسات المالية والنقدية، ويطالب أحد أبرز الاقتصاديين، بول كروغمان، الأستاذ في جامعة برنستون والكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز» الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، بعدم وضع حد أقصى للدَّين العام وزيادة الإنفاق في ظل استمرار الركود وعدم قدرة قطاع الأعمال على إيجاد فرص عمل للأميركيين. ويشير آخر البيانات إلى أن نسبة العاطلين من العمل عادت لترتفع، إذ سجلت 9.2 في المئة في حزيران الماضي، وأن فرص العمل الجديدة التي أوجدت خلال الشهر المذكور لم تزد على 18 ألف وظيفة. ويرى كروغمان وعدد آخر من الاقتصاديين الذين يشاركونه وجهات النظر، أن على الحكومة عدم التركيز على الحد من العجز ومحاربة التضخم، بل بذل الجهد من أجل حفز النشاط الاقتصادي من خلال آليات الإنفاق العام. ولذلك ليس محتملاً أن يعيد مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي (المصرف المركزي) النظر في سعر الحسم الذي يراوح ما بين صفر و0.5 في المئة، أقله خلال الشهور المتبقية من السنة. أما في ما يتعلق بمعدل التضخم فقُدِّر في آخر البيانات بنسبة 3.5 في المئة في حزيران، قياساً بما كانت عليه الأسعار قبل سنة. وتمثّل اليابان نموذجاً للاقتصاد الذي يواجه مصاعب هيكلية منذ زمن طويل. ولم ينتعش الاقتصاد الياباني في شكل موثوق منذ انهيار فقاعة سوق المال هناك قبل ما يزيد قليلاً على 20 سنة. وهكذا ظلت أسعار الفوائد المصرفية متدنية إلى درجة كبيرة، ولكن مقابل ذلك ازدادت أعداد العاطلين من العمل في صورة غير معتادة لليابانيين. وحدد «بنك اليابان» (المركزي) منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2010 سعر الحسم ب 0.1 في المئة، ما يعني تأمين إمكانات للاقتراض بأسعار فوائد متهاودة من النظام المصرفي. وفي اليابان التي واجهت الدمار قبل شهور قليلة بفعل الزلزال والتسونامي لن يُنتظر من سلطاتها النقدية أن تزيد في تكلفة الاقتراض، كما أن انخفاض معدل التضخم إلى أقل من 0.3 في المئة لا يبرر أي تشدد في السياسة النقدية. وهكذا يتضح بأن اتخاذ قرارات حول السياسة النقدية من المصارف المركزية في البلدان الرئيسة لم يعد أمراً روتينياً وهيّناً في ظل الركود وأزمات الديون السيادية في عدد من هذه البلدان وتزايد أعباء الحكومات والتزاماتها وتزايد أعداد العاطلين من العمل. نحن أمام مرحلة مهمة في تطور الاقتصاد العالمي، وهو تطور تشوبه المتناقضات غير التقليدية، بما يؤكد أهمية وضع تصورات ورؤى تمكّن من التحرر من تبعات الأزمة المالية والانطلاق نحو آفاق جديدة في العمل الاقتصادي تعيد للسياسة النقدية دورها الحيوي. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت