أعلِن في الولاياتالمتحدة أخيراً عن إيجاد 200 ألف وظيفة جديدة خلال كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وانخفاض معدل البطالة إلى 8.5 في المئة. ماذا تعني هذه البيانات؟ لا شك في أن الرئيس باراك أوباما يحتاج إلى تأكيد أي تحسن في معدلات التشغيل وأي انخفاض في معدل البطالة لأن المعركة الانتخابية المقبلة، التشريعية والرئاسية، ستكون معركة إيجاد الوظائف، بعدما تزايدت عمليات الاستغناء عن العاملين وتوقفت عمليات التشغيل الكافي، كما أن تحسن قدرة المؤسسات على تشغيل عاملين جدد يشير إلى وجود إمكانيات للانتعاش الاقتصادي في الولاياتالمتحدة وأن تلك المؤسسات أصبحت تعرف طلباً على سلعها أو خدماتها بما يلزِمها بتحسين قدراتها التشغيلية ومن ثم تشغيل مزيد من العاملين. معلوم أن الولاياتالمتحدة سوق كبيرة تتوزع فيها عمليات النشاط الاقتصادي بحسب الولايات والمدن بما يؤكد ضرورة التيقن من أن التحسن في عمليات التشغيل يشمل مختلف الولايات ولا تقتصر على عدد محدود منها. وهناك نشاطات استفادت من آليات الإنفاق الموجهة إلى مشاريع البنية التحتية أو التعليم أو غيرها من نشاطات عمومية، لكن لا يمكن التعويل فقط على هذه النشاطات لأن الاقتصاد الأميركي يعتمد في حيويته في شكل كبير على الأعمال الخاصة، خصوصاً الصغيرة منها. ولا تزال مسألة الدين العام والعجز الكبير في الموازنة تقلق أوباما والكونغرس ولم تتضح الإستراتيجية المشتركة التي يمكن أن يتفق عليها أعضاء الكونغرس من الحزبين لمواجهة العجز ومسائل الإنفاق العام على رغم التوافق على برامج قصيرة المدى كي لا يتوقف الإنفاق على بنود الموازنة. يراوح العجز في الموازنة الفيديرالية حول 1.5 تريليون دولار، وهو رقم مخيف، ومؤكد أنه سيزيد من حجم الدين العام إلى ما يزيد على 14 تريليون دولار، ما يمثّل نسبة مهمة من الناتج المحلي الإجمالي الذي يبلغ ما يقارب 15 تريليون دولار أي 93 في المئة منه. وأثار العديد من الاقتصاديين مسألة زيادة الإنفاق في ظروف الركود الاقتصادي حين تلعب آليات الإنفاق دوراً محفزاً يؤدي إلى تعزيز الإنفاق الاستثماري والاستهلاك. بيد أن الأمر يتطلب معالجات لمعضلة الضرائب التي لا تؤمّن أموالاً كافية للخزينة الفيديرالية بما يساعد على تلبية متطلبات الإنفاق المتوسع. فهناك الخفض الذي يعود إلى عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش ووفّر مبالغ مهمة على كبار الأثرياء، ولذلك فإن المسألة الضريبية أخذت طابع الصراع الاجتماعي السياسي حول سبل تطوير سياسات ضريبية أكثر عدالة وكذلك تأمين أموال إضافية للحد من العجز في الموازنة. وإذا كانت الضرائب تمثّل جانباً مهماً في الموازنة فإن كثيرين من رجال الأعمال والسياسيين يدعون حكومة أوباما إلى الحد من النفقات أو ترشيدها. لكن أين يكون الترشيد؟ يحاول أوباما خفض النفقات الدفاعية، أو العسكرية، وتحرير الولاياتالمتحدة من التزامات خارجية واسعة ووقف التورط في الحروب، فبعد الانسحاب من العراق هناك إستراتيجية للخروج من أفغانستان. هذه عمليات ترشيد مهمة لكن موازنة الدفاع التي تبلغ 700 بليون دولار لن تخفَض في شكل كبير نظراً إلى استمرار التوتر في الأوضاع الأمنية في العالم ولوجود عقيدة دفاعية لدى المؤسسة العسكرية بأن الولاياتالمتحدة يجب أن تكون على أتم الاستعداد لمواجهة أي أخطار محتملة مهما صغر شأنها. أما خفض الإنفاق على الأعمال المدنية فذلك لا بد من أن يؤدي إلى تراجع في قطاعات التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية، وهي من الأمور التي ستجد معارضة كبيرة من فريق واسع من السياسيين، خصوصاً الذين لم يتوقفوا عن الدعوة إلى زيادة المخصصات في هذا المجال. وتعلَّق أهمية كبيرة في الولاياتالمتحدة على تمكين أفراد قوة العمل من الحصول على وظائف والتمتع بمداخيل مناسبة فالاستهلاك العائلي والشخصي يمثّل قوة الدفع الأساسية في الاقتصاد الأميركي. بيد أن استمرار الركود زمناً غير قصير قد يؤدي إلى تغيرات في المفاهيم والسلوكيات الاستهلاكية فتصبح تلك التغيرات هيكلية وتؤدي إلى انخفاض في إنفاق الأفراد والأسر. ويخشى الأميركيون من استمرار أزمة الديون السيادية في أوروبا بما يجعلها تؤثر في قدرات المؤسسات والأفراد ويعطل عمليات الاستيراد السلعي من الولاياتالمتحدة أو يوقف تدفقات الأموال من البلدان الأوروبية إلى قنوات الاستثمار الطبيعية في الولاياتالمتحدة، ولذلك أبدت الإدارة الأميركية قلقاً واضحاً من تلك الأزمة الأوروبية وحرصت على المشاركة في عمليات التعويم والإنقاذ من خلال المؤسسات الدولية. إن المؤشرات الإيجابية المحدودة التي ظهرت في معالم الاقتصاد الأميركي لن تكون كافية ومقنعة للسياسيين ورجال الأعمال في البلدان الرئيسة للتوقف عن البحث عن معالجات ناجعة للمعضلات الاقتصادية المستعصية الراهنة. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت