مثقفو العراق «طبعة ثانية» مكثفة من الانقسامِ الشعبي حيال الأزمة السورية. وقد تكون صورتهم، منذ اندلاع الثورة ضد بشار الأسد، تتأطر بالمخاوف من حرب طائفية عابرة للحدود، والكسل في صوغ مواقف غير تلك التي تجهزها لهم القوى السياسية التقليدية في البلاد، واقتراف التعميم المجاني لافتراض سورية الغد. خلفَ هذه الصورة يقفُ المثقفون العراقيون على كثير من الحيرة. يبدو أن «الزمن السوري» متقدم كثيراً على توقيتهم. وأنهم يواجهون سؤالاً قاسياً عن فاعليتهم ساعة ينعطف التاريخ. ومن الصعب تحديد توجهات واضحة للمثقفين العراقيين. قد تكون «لائحة الاحتمالات» التي تفضي إليها مرحلة ما بعد الأسد وراء فوضى التوجه. بيد أن من المتاح تأشير انسحاب مثقفين عراقيين إلى هواجس طائفية، إذ ينسجم فريق مع خطاب شيعي يخشى صعودَ السلفيين، وتيارات متطرفة في سوريا، إلى الواجهة حاكمة أو متنفذة فيه. في الطرف الآخر يقَع فريق ثان في الفخ ذاته؛ السُنّة في العراق ينتظرون سقوط الأسد، لتحقيق التوازن. الفريقان يشوّهان استعمال «الشُغل» الثقافي، ويحضّران لأجواءِ استقطاب حاد. هُم، في المحصلةِ، فريق واحد. ولهذين الفريقين خدمة إعلامية مجانية تجتهد في إعلاء صوتيهما، ويحتاج المراقب إلى جهد كبير للعثور على مواقف متحررة من المعايير الطائفية. قنوات إعلامية ونشرات أخبار وبرامج تحليل ومتابعة، مقالات وأعمدةُ رأي في الصحافة المقروءة جاهزة لخدمة «مع - ضد» الأسد طائفياً. قبل صعود الهاجس الطائفي إلى صدارة المخاوف العراقية، كان الانقسام يتخذ بعداً مختلفاً، ويظهر التضاد بين عقليتين: مثقفون لم يستوعبوا، بعد، زمنَ التحولِ من الأنظمةِ العربية التقليدية، وما زالوا يجدون الثورة عليها مؤامرة أجنبية. وآخرون يلملمون الفوضى التي خَلفَها الربيع حباً فيه وأملاً بعقل عربي متحرر. هذا التضادُ يمكن استخلاصه من وثيقتين عراقيتين عن أزمة سورية. بيانان مُهِرا بتوقيع ينوب عن «المثقفين العراقيين»؛ الأول صَدر عن تجمع في دمشق يمثل من يقيم فيها: «المثقفون العراقيون بمختلف اتجاهاتهم وألوانهم ونشاطاتهم (...) يَضعون أنفسهم وأقلامهم وإمكاناتهم في سبيل أبناء الشعب السوري وقيادته الحكيمة بقيادة الرئيس الدكتور بشار الأسد». (اقتباس عن بيان نشر في أيار 2011 عن تجمع المثقفين العراقيين في سورية). وفي التاسع عشر من تموز(يوليو) الماضي وقع مثقفون عراقيون بياناً يحاول الانشقاق عن الموقف الحكومي، ويُعيب على الحكومة العراقية «التورط» في مؤثرٍ خارجي: «على الحكومة العراقية التعامل مع سوريا بطريقة مسؤولة، ومستقلة عن مخططات الجهات والبلدان الفاعلة في الملف السوري». (اقتباس عن بيان شعراء وروائيين داخلَ العراق وخارجه نشر الشهر الماضي). في البيان الأول تبدو واضحة اللغة التقليدية في الأدب السياسي لعراق ما قبل العام 2003، إذ بَذل الموقعون مفردات من قَبيلِ «سورية الممانعة»، «النظام المجاهد»، وكالعادة حذر من «مؤامرة أنكلو أميركية» تُحيق ب «المشروع العربي والإسلامي»، وجاءَ في البيانِ الكثير من «الامتنان» لخدمات قدّمها نظام الأسد لهم. لكن البيانَ الثاني رد فعل على رفض الحكومة العراقية استقبالَ اللاجئين السوريين، وهو من المواقف الشحيحةِ لمثقفين يؤيدون الثورة. وقد يعود الأمر إلى حيرتهم من فوضى الصورة الواردة من دمشق. لكن البيانين يعكسان انقساماً لا علاقة له بالهاجسِ الطائفي، فقد كان الموقعون عليهما بين بقايا العقل العربي القديم، وأبناء زمنِ الربيع العربي. وبين لغة الوثيقتين تتنافرُ المفردات ويتضح العسر في فهم التحول العربي. لاحقاً، صار الفريق الأول جزءاً من حركة ترويج شبح الحرب الأهلية. في حين جابه الفريق الثاني مثل هذا الترويج بأن التخويف من سوريا متطرفة ليس أكثر من مصادرة لخيارات السوريين. مع ذلك، يمكن العثور على أقلية مثقفين عراقيين تفكر بطريقة مختلفة. ترى أن «وقتَ حزب البعث في سورية انتهى»، وأن «زمن القهر السياسي والثقافي لن يعود». هذه الأقلية تدافع عن الثورة، وتعارض بشار الأسد بعنفوان جارف، لكن الرأي العام لا يكترث لها. الأقلية تسّطر شغلها وإبداعها من أجل نهاية سعيدة للثورة السورية، وتشترك في كونها تضّم مستقلين وليبراليين، جلّهم عاشَ في سورية معارضاً لنظامِ صدام حسين. وهم اليوم يخشون بأن يدفعَ العراقيون ثمناً باهظاً لموقف الحكومة العراقية. يكتب الباحث والصحافي العراقي نبراس الكاظمي على حسابه في «فايسبوك» أن «لا مصلحةَ للعراق في استعداء الشعب السوري باستمرار الوقوف إلى جانب من يظلمه». هؤلاء، على طول الخط، معارضون لموقف حكومة نوري المالكي، وبالضرورة معارضون لأي صفقة تبقي الأسد جزءاً من مرحلة ما بعد الثورة. غير أنهم يخشون من ظهور ملامح «متطرفة» على وجهها: الأخبار التي تتردد عن تواجدِ عناصر جهادية تنشطُ في الميدان، وقد تنشطُ في تشكيل هوية البلاد الجديدة. التحول في وقائع الثورة، وما يحيط بها من هواجس ومخاوف في أن تنفجر سورية على المنطقة، يضع المثقفين العراقيين في موقف صعب. ثمة من يتحاشى إطلاق تصوراته عن المشهد السوري. تكتب الشاعرة والصحافية زينة الحلفي على حسابها في «فايسبوك»: «المشهد السوري معقد جداً (...) ما يؤلم ألا نميز بين من قتل العراقيين بأحزمته الناسفة الآتية من الحدود السورية، ومن شاركنا الألمَ العراقي وكان أول من خرج متظاهراً ضد الأسد». يمكن ملاحظة الخوف في طريقة معاينة العراقيين لأزمة جيرانهم، حتى المثقفون ما زالوا في سجن التاريخ المضطرب، وقد يفوتهم أنهم يطيرون فوق الثورة. على هذا يفكر البعض في تجاوز هذا الفخ، ويكتب الشاعر دخيل الخليفة على حسابهِ في «فايسبوك»: «الحكم على مرحلة ما بعد بشار مرهون باختيار الشعب (...) أما الخوف من فتنة بين السُنّةِ والشيعة فهو حصاد لما زرعته حكومات ما قبل الربيع العربي». بعض الباحثين العراقيين يجدون في كل هذا اللغط سكوناً في لغة عاطفية عن الثورة، وهي تفتقر إلى إدراك اللحظة السورية، كونها زمنا إقليمياً عاصفاً. يعتقدون أن فكرة الخوف، وتحميل مرحلة ما بعد الأسد زخماً من التوقعات، والخشية من نار إقليمية تتسعُ لما هو أبعد من سورية، يعود إلى ضمور ثقافي عراقي. وهنا ينتصر مثقفون عراقيون لفكرة أن تتجاوز سورية سيناريو العراق ما بعد 2003، لكن كيف؟ يكتب الروائي والصحافي أحمد سعداوي على فايسبوك: «التعامل العراقي المنفعل مع الملف السوري هو المسيطر (...) ما لم تدخل قوة إقليمية أو دولية أو تحالف أممي إلى سورية بشكل أو آخر، ليكون ضامناً لإنجاز اتفاق سياسي على «شكل» سورية بعد الأسد، فإن كل ما حصل في العراق سيغدو شاحباً أمام احتمالات التدهور في سورية». في ظل كلّ هذا، ثمة من يبكي دمشق، يخاف عليها، وله في ذلك دواع تنأى عن الأسد ومعارضيه: مكان أثير يضِج بالحياة. بيدَ أن الصورة الكلية تشكل امتحاناً قاسياً للمثقفين العراقيين. طالما وضعوا في حرج السؤال : هل تتجاوزهم التحولات العاصفة؟ البعض يزعم إجابة تفيد بأنهم منقسمون على «عراقهم»، متأخرون عنه، وقد يهرب منهم إلى مذاهب لا بصمة لهم فيها، فكيف يلحقون بسورية؟