تطوي الثورة السورية حقبة طويلة من الاعتبارات التي حكمت المنطقة منذ السبعينات، وفي مرحلة منازعته الأخيرة تنطوي مع النظام القديم سلسلة من المفاهيم والشعارات التي طبعت حياتنا خلال المرحلة السابقة. لقد افلحت الثورة في سورية في الذهاب بكشف «الممانعة» وأسطورتها إلى مدى أبعد من الذي ذهبت إليه الثورتان اللبنانية في 14 آذار 2005 والإيرانية بعد انتخابات 2009، ولكل من هذه الثورات خصائصها وظروفها، لكن كلها رفعت الشعار ذاته في أولوية الداخل على الخارج والحرية على الاستعباد وكلها كانت ضد التوجه الأمني والقبضة الأمنية التي ذهب ضحيتها الآلاف من المواطنين. من السذاجة الاعتقاد بأن سقوط أعمدة المنظومة في سورية وموتها سيقطعان هكذا من دون السير بمواكب جنازتها في كل المنطقة، خصوصاً أن انتصار الثورة هناك سيفتح أفقاً جديداً لا بد من أن يلقى ترجامته على الصعد كافة. من هذه الزاوية، لن يكون لبنان بمنأى عن هذه الترجمات على رغم القول إن التركيبة الديموغرافية ثابتة، والتوازن السياسي يشهد انقساماً عمودياً، ونظام الطائفية يحفظ للطوائف امتيازاتها، إلا أن كل ذلك لا ينفي أن لبنان هو من أكثر الدول استشعاراً للتوازات الإقليمية وأسرعها قدرة على الترجمة والتجسيد، أضف إلى أن حصانات طوائف بذاتها تصطدم بحدود التساوي مع الطوائف الأخرى، إذ لا يتيح النظام اللبناني بجوهره بعد الطائف تكريس امتيازات جديدة لطالما شكلت مصدراً للتوتر في لبنان. الدواعي التي أتاحت تحوّل لبنان إلى الساحة الرئيسة للتعبير عن الممانعة منذ خروج مصر إلى كامب ديفيد وانتصار ثورة الخميني في إيران عام 1979 أرست قواعد داخلية تم استهلاكها وتغيب الحاجة إليها في هذه المرحلة. والواقع أن الثورة اللبنانية على الوصاية عام 2005 زعزعت أسس النظام القديم، إلا أنها عجزت عن امتلاك النفَس الطويل لاستبداله، ويجب ملاحظة أن امتلاك الممانعة أنياباً لها في الداخل اللبناني أطاح القدرة على حسم وجهة الثورة. لقد خلصت الممانعة، بتجربتها السياسية وبمضمونها الثقافي، إلى نتيجتين جوهريتين: الأولى هي أن كلفة بقائها اصبحت أكثر بكثير من كلفة رحيلها، ما يجعل في استبدالها مصلحة وطنية وقومية مباح التنظير لها حتى على المستوى الثقافي ومباح إعادة قراءة محطاتها التاريخية بناء لما خلصت إليه من مآزق في علاقتها مع الجمهور. والثانية، لقد سقطت الممانعات على اختلافها في امتحان الداخل وأفرغت نظرية الأمن الوطني والقومي من فحواها وذلك مع تحول سلاحها إلى الداخل وعدم قدرتها على التكيف مع الوعي الديموقراطي في المنطقة. وهذا السقوط لم يقتصر على طرف واحد من المضلع بل شمل كل أجنحته من دون استثناء. نصيب لبنان من ذلك كان كبيراً وعلى رغم الخبرة السياسية التي يتمتع بها اللبنانيون، فإن الفرص التي أهدرت في سياق البحث عن حياد لبناني تجاه إبقائه ساحة رئيسة للصراع لم تتح للدولة القيام بواجبها. وقد تماهى التوازن اللبناني مع كل المتحولات الإقليمية وفقاً للقاعدة التي اعتمدتها إيران وسورية في تحويل مكامن الضعف التي ألمّت بموقف الولاياتالمتحدة ومحور الاعتدال العربي إلى مشاريع هزيمة ل «حلفائهم» وانتصار لمحور الممانعة في لبنان. ترجمات ماضية تبرّر ترجمات لاحقة يبني عليها فريق كبير من اللبنانيين بهدف استعادة التوازن في الساحة اللبنانية! وقد يبدو من نافل القول إن الخيارات المتاحة لمنظومة الممانعة في لبنان، بما تختزنه من قوة، هي سهلة التحقق بالمقارنة مع غيرها من الساحات، إذ سيقف رد فعل حلفاء النظام في سورية بين خيارين، الأول النظر إلى الصراع في سورية على أنه صراع دولي عليها يبرّر أو يتيح في المقابل التصرف في لبنان تبعاً للقاعدة ذاتها، فيتحول الجهد إذ ذاك لجعل لبنان ساحة تعويضية من ضمن استراتيجية سبق أن طبقت من قبل، وهذا الخيار يجر وراءه تجارب على غرار 12 تموز أو 7 أيار وما شابه، والثاني هو الانصراف إلى الأولويات الداخلية التي تستوجب وضع سلاح «الممانعة» في عهدة الدولة اللبنانية. وهذا ما يوفر على لبنان الكثير من العناء، لا سيّما أن تجربة سلاح للدولة المُمانِعة في سورية لا يشجع على التغاضي عن مستقبل سلاح خارج الدولة في لبنان. من البديهي النظر إلى الحكومة اللبنانية برئاسة ميقاتي على أنها أخذت تستنفد ميزة الحفاظ على الاستقرار بما لم يعد يقي لبنان ارتدادات الأزمة السورية، وهذا بحده الأدنى يفترض إعادة إحياء فكرة الوحدة الوطنية، لكن ذلك يستوجب قناعة حلفاء سورية بضرورة الخروج من حالة الإنكار التي تنتقل عدواها من سورية إلى لبنان والتخلي عن خيارات الإقصاء السياسي التي ظهر أن حساباتها تتعلق بقضايا تتخطى الموضوع الداخلي. من جهة ثانية، يتضح أن ما «حمى» الاستقرار الهش في لبنان الى حد اليوم ليس سياسة النأي بالنفس التي اتبعتها الحكومة، إنما تموضع لبنان على المستوى الاستراتيجي إلى جانب الممانعة، ما يعني أن خسارة هذه الميزة هي المدخل لانفراط الاستقرار الداخلي وتمدد النزاع من سورية إلى لبنان! ثمة ما يفترض البحث في حقبة «لبنان ما بعد الأسد» وتحضير الأرضية لانخراط الجمهور اللبناني في المتغيرات التي شهدتها المنطقة، وليس من الضروري ان تتكرّر تجربة التمسك بالنظام القديم والاستعصاء على جملة التحولات، إذ يكفي التعلّم من وقائع الماضي القريب لكي نستنتج أنه لا يمكن إدارة الظهر للتوافق السياسي الداخلي حول القضايا الرئيسة، وأهمها ألا يتبع لبنان استراتيجيات تفوق قدراته وتحمّله أعباء بالوكالة عن غيره. فالأنموذج الذي فرضته منظومة الأسد في لبنان فاد بمكان وأضرّ بأمكنة، أما الشعار الذي ينهار مركزياً فمن الصعب أن يستنهض نفسه في الشتات. * كاتب لبناني