لا ينفصل المشهد في لبنان إبان النقاش الذي يدور حول المحكمة ذات الطابع الدولي ومتفرعاتها عن أي مشهد آخر يتساجل على تفاصيله اللبنانيون في يومياتهم السياسية، إلا أن الامتداد الإقليمي والدولي لهذا الملف من جهة وانعكاسه على العلاقات بين الطوائف والمذاهب من جهة ثانية يعطي للموضوع أهمية فائقة. اللبنانيون غير قادرين على التحكم بمسار المحكمة ولا يستطيعون السيطرة على خلاصاتها وعلى رغم ذلك يكاد هذا الجدال يطيح بوحدة البلد والمؤسسات. فالمحكمة شأناً دولياً تتشكل مثيلاتها عندما تعجز السلطات القضائية في الدول النامية عن القيام بواجباتها، ولبنان الذي طبعت الاغتيالات السياسية مرحلة طويلة من تاريخه استنجد بالعدالة الدولية لوقف مسلسل الاغتيالات، هذه الحقيقة الإشكالية هي جزء من الصراع السياسي الداخلي الذي نشأ منذ العام 2004 على خلفية التمديد لرئيس الجمهورية السابق إميل لحود وصدور القرار الدولي الرقم 1559. وهذا الصراع لم يستثنِ السلطة القضائية التي غالباً ما تتعرض لضغوط سياسية تضعها في خانة هذا الفريق أو ذاك. أما النقاش الذي يدور حول معادلة الاستقرار والعدالة فهو لا ينطلق من فرضيات تأخذ على نصف اللبنانيين تمسكهم بالعدالة وعلى نصفهم الآخر إمكانية ضربهم للاستقرار، إنما يبرز على أساس الموقف من قرار اتهامي يصدر عن مؤسسة تتبع للشرعية الدولية وتتعاطى معها الأطراف السياسية وفقاً لحساباتها ولرؤيتها، وهذه الشرعية منخرطة في الصراع السياسي الداخلي تلقائياً لناحية اعتمادها نصوص القرارات الصادرة عنها والتي تتمتع بآليات متابعة تجري تقويماً دورياً لمواضيع مثل عمل المحكمة والسلاح الغير شرعي ووضع الحدود ونفوذ الدولة وغيره. ومن حيث المبدأ لا يجوز ربط الاستقرار بالعدالة إلا إيجاباً، إذ حتى لو اضطر فريق من اللبنانيين إلى خوض صراع مع العدالة الدولية فلا شيء يبرر ضربه للاستقرار على قاعدة إقصاء الفريق الآخر عن المشاركة السياسية بالقوة.! بل لا يمكن مجابهة الشرعية الدولية إلا من خلال شرعية وطنية موازية تقوم على قاعدة الاجماع والتوافق الداخلي التي بدورها تفرض نفسها على كل المعادلات الخارجية. في سياق الجدال حول المحكمة الدولية والقرار الظني تم التطرق إلى ملفات إضافية، منها شهود الزور وفتح ملف حرب تموز (يوليو) 2006 واتهام حكومة السنيورة ب "تمديد" فترة الاعتداء الإسرائيلي وفتح نقاش حول دستورية المحكمة وشرعية الحكومة التي طالبت بها وغيره وكل ذلك يدل على أن عوامل تفجر الصراع الداخلي في لبنان لا تقتصر على موضوع المحكمة الدولية، فهي ليست إلا واحدة من عناوين الخلاف الرئيسية في البلاد لكنها تكشف كما غيرها من الأمور عن أزمة النظام اللبناني الذي تعود جذورها لما قبل الاستقلال بدليل أن النقاش الرئيسي الذي أضاء عليه السيد حسن نصر الله في إحد خطاباته عندما خيّر اللبنانيين بين الخيار السعودي - السوري وخيار الولاياتالمتحدة إنما يدور حول موقع لبنان في المنظومتين الإقليمية والدولية، وأي من المرجعيات تضمن الأرجحية لها داخلياً، فمعضلة لبنان الأولى هي في حركة القوى المحلية لحسم التموضع اللبناني في النظام الإقليمي والدولي. هذه الإشكالية طبعت كل المفاصل التي ألمّت بلبنان وكانت التسويات الموقتة غالباً ما تترك وراءها قضايا معلّقة ومؤجلة تشكل مادة للانقسام السياسي يتم استثارتها متى ما تأمنت لها الظروف المناسبة ومن هذه الأمثلة بعد الطائف سلاح "حزب الله" وصلاحيات رئاسة الجمهورية وقبله اتفاق القاهرة الذي أتاح للثورة الفلسطينية العمل العسكري انطلاقاً من لبنان وحلف بغداد الذي فجر أحداث 1958 وغير ذلك. طبعاً "الاستقطابية" في لبنان لم تنته إلى نتائج حاسمة بدليل استمرار النقاش ذاته على رغم تغير الأزمنة وتبدل المواقع وتعاقب دورات العنف التي عصفت بالبلد. أضف إلى ذلك أن الأطراف الإقليمية والدولية تنخرط في لبنان باعتباره معبراً إلى ما يتجاوزه. فالولاياتالمتحدة سارعت لتدارك "تداعيات" زيارة نجاد التي أظهرت لبنان مُتموضعاً في إطار محور الممانعة، والحراك الذي يدور حول القرارات الدولية المتعلقة بلبنان في الأممالمتحدة وارتفاع منسوب الكلام عن المحكمة الدولية يهدف إلى عدم رمي لبنان في أحضان القوى الإقليمية، إضافة إلى الزيارة "الإقليمية" الموازية التي قام بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وبالتالي فإن معضلة لبنان الثانية هي أنه محط تجاذب إقليمي دولي يُبقي توازناته الداخلية عرضة للتدخلات الخارجية التي تجذبه إلى هذا المحور أو ذاك في النظام الدولي. والحال فأزمة النظام اللبناني اليوم لم تعد لتقتصر على "الطائفية"، أنه نقاش مضى عليه الزمن على رغم الحروب الطائفية والمذهبية التي تسبب بها، المشكلة الأكبر هي في موقع لبنان على الخريطة الإقليمية والدولية، كيفية تعاطيه مع المرجعيات والمواثيق بشقيها الداخلي والخارجي، موقع الدولة في روح الجماعة وموقع الجماعة في الدولة، إلى أي رابطة أو محور ينتمي لبنان وما هو نوع التسويات التي تضمن بقاء هذا البلد. وبالتالي فإن لبنان، بقواه الداخلية، ليس جاهزاً لإبرام تسوية تطوي مرحلة من تاريخه اتسمت بالتوتر الشديد وذلك لأن الأطراف الأساسية تستسهل فتح ملفات الماضي والتجييش عليها من دون ابدائها الجاهزية للاعتراف ببعض الأخطاء أو محاسبة بعض الأشخاص أو التخلي عن بعض الامتيازات. وهذا يفتح الباب من جديد لأن تكون المعادلة الخارجية أقوى بكثير من الحراك السياسي الداخلي، ما يطرح السؤال عن مستقبل البلد ووحدة مؤسساته وعما إذا كانت التسوية الإقليمية المقبلة ستستكمل تطبيق اتفاق الطائف من دون أن تترك وراءها ما يعود ليستدعي دورات من العنف أو مزيداً من التسويات والاتفاقات التي تُبقي لبنان تحت الرعاية الإقليمية وبالتالي التوظيف الإقليمي؟ * كاتب لبناني