يُسلم سياسيو قوى الرابع عشر من آذار (مارس) خصومهم نصف الرد عليهم عندما يرفع المنادون بالسيادة اللبنانية الناجزة شعار بناء الدولة. في تفاصيل الرد الذي تسوقه قوى الثامن من آذار (مارس) على نظرائها ان هؤلاء لم يألوا جهدا في تدمير الدولة اثناء الحرب الاهلية المديدة، ولم يقدموا سوى نماذج معادية لأبسط ضرورات استتباب سلطة الدولة اثناء فترة السلام او الوصاية السوريين. قادة الرابع عشر من آذار، في عيون خصومهم وجمهور هؤلاء، من أمراء الحرب واقطاعيي المعازل الطائفية، ومن رموز الفساد وتكريس البنية الاقتصادية التابعة للصناديق الدائنة. موجز الصفات هذه ينطبق على مسؤولي الصف الاول في قوى الرابع عشر من آذار، ومن فاتته أمارة الحرب، أُسندت اليه، في خطاب الناطقين بلسان قوى الممانعة في لبنان، تهمة الاعتداء المتمادي على المال العام على امتداد اعوام «السلام السوري». والحال ان في صدارة صف الثامن من آذار من بايعته جماعته أميرا على حروبها على الطوائف والجماعات والفئات اللبنانية والفلسطينية، المناوئة. فلا يستقيم حرمان نبيه بري من تقدم أرتال طائفته المندفعة الى المخيمات لمصلحة جعل هذا الشرف حكرا على وليد جنبلاط وقواته اثناء حرب الجبل، وهذا مثال من فيض امثلة مشابهة. ولا يصح، بالقدر عينه، حصر المساهمة في الاقتتال الدموي كما في تقاسم اموال اللبنانيين العامة، بفئة دون غيرها. لكن احزاب الرابع عشر من آذار وتياراتها، لم تجد بديلا عن إعلان طموحها الى بناء الدولة لتفتح على نفسها باب التذكير بماض كل واقعة فيه اقرب الى التشهير بالذات، في حين ان معسكر الثامن من آذار وفّر لنفسه جملة من المشاريع: فإذا قيل ان حيازته ترسانة عسكرية تفوق قوتها ما لدى الجيش الوطني، جاء الرد ان هذا السلاح سيوضع في خدمة الدولة «القوية العادلة» التي لم يبرز أي من ملامحها بعد، وان السلاح المذكور مخصص للمقاومة وللدفاع عن لبنان. واذا احتج احد اللبنانيين بالقول ان السياسة الاقتصادية – الاجتماعية عند محبذي الممانعة لا تختلف في شيء عن شبيهتها في صفوف مؤيدي الاعتدال من اللبنانيين، نهض من يقول ان العبرة تبقى في الموقف من الصراع العربي - الاسرائيلي وفي الخيارات الكبرى التي يتعين على اللبنانيين القيام بها: فإما خنوع وتبعية والتحاق بالغرب مع تيار المستقبل والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي (او بالاحرى مع الطوائف او اجزاء الطوائف التي يمثلون) وإما كرامة وعزة ومقاومة مع حزب الله والتيار الوطني الحر وحركة أمل (وما يعكسه هذا الصف من ألوان طائفية مقابلة او متقاطعة مع الصف الآخر). المسألة تكمن، اذاً، في امتناع الاقناع عن الشعار المرفوع من تحالف الرابع عشر من آذار، بسبب عبء التاريخ والتجربة الفاشلة، وافتقاره كذلك الى الادوات الكفيلة بفرض رؤيته بالقسر والارغام (عند الحاجة)، في حين يحظى الفريق المقابل بمصداقية «التحرير» و«الانتصار» في حرب العام 2006، ولم يخش من نسبة الفضل الى نفسه حتى في التغييرات التي تشهدها السياسة الاميركية منذ اشهر. الشعار الاقرب الى المعقول في احوال لبنان الراهنة هو شعار السلام، بصفته مرحلة ارقى من وقف اطلاق النار الذي تعيشه البلاد، وادنى مستوى من مشروع الدولة، بالمعنى الحديث للكلمة، الذي لا قبل لأي من اطراف الاجتماع السياسي اللبناني على تحمل تبعاته حيث يستحيل ان تتحمل أي ذراع سياسية لطائفة من الطوائف اللبنانية الغاء الذات والتخلي، تخليا حبيّا، عن الحيز الذي تحتل في سبيل دولة لن تعترف، حكما، بأي كيان من خارجها يشاركها سلطاتها او ينازعها عليها. السلام، هو الآخر، مشروع معقد لكنه اقرب الى التحقق في ظروف الانقسام اللبناني المزمن الذي ستبقى الطوائف هي العنصر المشكل لحياته العامة، حتى اشعار آخر. والمصلحة في احلال السلام وتجاوز حالة الهدنة المديدة القائمة اليوم، تبدو اوضح بالنسبة الى اكثرية اللبنانيين، خصوصا لناحية سحب موضوع الامتيازات والافضليات من ساحة المزايدات والمناقصات. والسلام وإن كان يستدعي وجود جهاز سياسي ائتلافي او دولة تقوم على تفاهم العصبيات وتشاركها، وليس على الغائها وقمعها (مثلما يفترض مشروع الدولة الحديثة)، الا انه يتطلع الى تكريس الاعتراف بسيولة الطوائف وحركيتها بما يجعلها تقر، في المقابل، بوجود حاجز نهائي بين حجمها الديموغرافي وحصتها من السلطة، عوضا عن محاولة تعديل هذه الحصص وفقا لتبدل نسب التكاثر والتناسل. بكلمات اخرى، ينبغي التسليم بأن الشراكة في الحكم يكفلها مجرد الوجود على هذه الارض وليس البحث عن مواطن قوة ومصادر اسناد في الخارج. يتعين التأكيد هنا ان السلام المقصود هو ذلك القائم بين الطوائف اللبنانية، وليس بين الدولة وأي دولة اخرى. فهذا شرط شارط عند كل بحث في استقرار الحكم في لبنان، طالما ان الصراع العربي - الاسرائيلي ما زال من دون حل وطالما ان المنخرطين فيه، من القدماء والمستجدين، يتوسلون العنف والبحث عن «الحلقات الاضعف» لتحطيمها ولتسجيل النقاط. وما من حلقة اضعف من لبنان في هذه الزاوية من العالم. ربما تكون الرغبة في بناء دولة حديثة، رغبة سابقة لاوانها في لبنان وفي غيره من الدول العربية التي ما زالت المكونات «الاهلية» ما دون السياسية فيها، تؤدي ادوارا حاسمة في توجيه مؤسساتها الحاكمة (الموسومة ب»الدولة»). ولعل شعار الدولة اوسع بكثير من امكانات قوى الرابع عشر من آذار ومن قدراتها وهي التي لا يجد قادتها سوى ابنائهم ليكلموا مسيرات الحداثة والديموقراطية، في بلد يقال انه خزان للكفاءات البشرية الشابة... * كاتب لبناني.