مفاجآت الرقابة في لبنان لا تنتهي. تبدو حكاياتها مع المصنفات الأدبية أشبه بمسلسل سوريالي لا خاتمة له. هكذا، فجأة ومن دون سابق إنذار، فوجئ المثقفون اللبنانيون أوّل من أمس بقرار منع رواية هي من كلاسيكيات القرن العشرين للأميركي الحائز جائزة نوبل جون شتاينبك. «فئران ورجال» الصادرة عام 1937 من أولى الروايات التي يتناولها هواة التعرّف إلى الأدب الأميركي المعاصر، وهي غالباً ما تُدرّس في مناهج كليّات الآداب في الجامعات اللبنانية. لماذا تُمنع اليوم؟ وما أسباب سحبها من المكتبات بعد ثمانية عقود على نشرها؟ الجواب دائماً مفقود. هذه الرواية، سبق أن أُثير حولها الجدل بحجة شكوك حول احتمال أن يكون كاتبها إسرائيلياً. ولكن ما لبث أن قُطع الشكّ باليقين باعتبار جون شتاينبك كاتباً أميركياً خالصاً، فلم تُسحب الرواية من المكتبات. بعد سنوات على تلك الحادثة التي لم يمتد صداها في الأوساط الثقافية كثيراً، صدم المثقفون اللبنانيون أوّل من أمس بقرار منع الرقابة رائعة شتاينبك الشهيرة من دون أيّة توضيحات. الأسباب في عهدة الأمن العام الذي لم يصدر بياناً رسمياً إلى الآن. «نحن لا ندري شيئاً عن قرار المنع هذا. ولم نستلم حتى الآن كتاباً رسمياً يُفيد بضرورة سحب هذه الرواية من مكتبتنا، لغاية هذه الساعة لم يتمّ إبلاغنا شفهياً بالأمر، إلّا أننا علمنا كما الجميع من خبر نشرته إحدى الصحف الناطقة بالفرنسية. ولكننا سنلتزم حال إعلامنا بقرار المنع وسنسحب الرواية مضطرين، حتى وإن لم تكن أسباب سحبها واضحة أو مُقنعة. وهذا الكتاب يبيع نحو ثلاثة نسخ في السنة وهذا ليس رقماً يستحقّ الوقوف عنده». هكذا جاء ردّ رئيس مجلس إدارة مكتبة «أنطوان» سامي نوفل. وفي معرض إجابته عن حدود تدخّل الرقابة اللبنانية في الكتب الإبداعية أجاب نوفل: «لا يمكن التكهن في أسباب منع رواية معروفة عالمياً في هذا الوقت بالذات بعد 75 سنة على نشرها. هذا الأمر يحمل من الغرابة ما يجعله غير قابل للتصديق، إلّا أنّ لا بدّ لنا كمكتبة من الانصياع لقرارات الأمن العام اللبناني». نُقلت رواية «فئران ورجال» إلى المسرح ثمّ إلى السينما من خلال فيلمين أحدثهما هو لجون ملكوفيتش الذي لعب فيه دور ليني. وتدور أحداث الرواية خلال الأزمة الاقتصادية في كاليفورنيا في ثلاثينات القرن الماضي بين صديقين مختلفين يجمعهما حلم مُشترك في امتلاك مزرعة خاصة. جورج صاحب بنية صغيرة وذهن متقد يُدير صديقه ليني الذي يتمتع بقوة هرقلية وضخامة جسدية وقدرات عقلية محدودة. يهيم الصديقان في كاليفورنيا من مزرعة إلى مزرعة ويتقاسمان معاً حلم شراء أرض يستقرّان فيها ويُربيان فيها الأرانب. هذا الحلم كان وسيلتهما الوحيدة لتجاوز هموم حياتهما وروتينهما اليومي. والمعروف أنّ الرواية هذه مستوحاة من أبيات لروبرت بيرنز تُفيد بأنّ خطط معظم الرجال والفئران لا تتحقّق، في كثير من الأحيان. وشغف ليني سمول بلمس الأشياء الناعمة خصوصاً فرو الفئران يُكرّس عنوان الرواية الشهيرة «فئران ورجال». الرواية في شكلها العام لا تقارب أي «تابو» يستدعي سحبها بعد كلّ هذه المدّة. وأعضاء صفحة «كفى للإرهاب الثقافي» على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك يرفضون قرار منع أشهر روايات جون شتاينبك بعد ثمانية عقود على إصدارها. الشباب المنتمون إلى هذه الصفحة يعلنون دهشتهم بل رفضهم فوضى المنع من دون شرح أسباب المنع هذا. «غريب أن تُمنع رواية عمرها أكثر من نصف قرن»، «لن نقبل قرارات عشوائية من الأمن العام اللبناني لا تكون مقترنة بشروح وتوضيحات»، «كفى اغتصاباً للثقافة بمبرّر ومن دون مبرّر»... بهذه العبارات وغيرها رفع الناشطون والشباب أصوات استنكارهم ضدّ قرار سحب رواية «فئران ورجال» من المكتبات اللبنانية ومنعها. لا شكّ في أنّ هذا القرار المفاجئ سيُعيد صاحب «عناقيد الغضب» إلى الواجهة. لا شكّ أيضاً في أنّه سيدفع الكثيرين إلى النبش عن هذه الرواية الكلاسيكية الغارقة بين رفوف مكتباتهم لكشف «الممنوع» في هذه الرواية. ولكن هل يُمكن الأمن العام أن يُسهّل المهمة على القرّاء ويُجيب عن تساؤلاتهم ببيان رسمي أم إنّه سيكتفي بالمنع ليُكمل مسلسل «صدماته» المتتالية؟