في روايته الشهيرة «حقول الفردوس» يجعل جون شتاينبك إحدى الشخصيات تقول ان كتاب روبرت لويس ستيفنسون «رحلات في رفقة حمار في مناطق السيفان الفرنسية»، هو واحد من أعظم الكتب الأدبية التي كتبت باللغة الإنكليزية. ومن هنا لا يستغرب المرء ان يكون شتاينبك عنون في العام 1962، كتاب رحلاته الأخير، الذي وضعه ليتحدث فيه عن رحلة قام بها في طول أميركا وعرضها قبل ذلك بعامين «رحلات في رفقة تشارلي». وتشارلي هنا هو كلب شتاينبك، الذي رافقه في رحلته، على متن الحافلة التي أطلق الكاتب/ الرحالة عليها اسم «روتشيننتي» تيمناً باسم حصان دون كيشوت في رواية سرفانتس الكبرى. كتاب الرحلات، هذا، والذي نحن في صدده هنا، هو، إذاً كتاب وضعه أديب انطلاقاً من كتاب رحلات لأديب آخر، ويخيم عليه، كله، شبح أديب ثالث. لكنه، بعد هذا، كتاب رحلات حقيقي ومن نوع شامل، بحيث يقال عادة انه على رغم وجود ألوف الكتب التي تتحدث عن اميركا ومناطقها المختلفة وذهنية شعوبها، يبقى كتاب شتاينبك هذا، الأكثر فائدة وتبصراً ورصداً للمجتمعات الأميركية، بدءاً من لونغ آيلند في نيويورك، حتى الطرف الآخر من الولاياتالمتحدة، حيث إن طول الرحلة التي قام بها شتاينبك، ووصفها في الكتاب لا تقل عن عشرة آلاف ميل، علماً أن هذا الكاتب، استند الى ملاحظاته ومشاهداته، ليكتب بعد ذلك بسنوات قليلة آخر كتاب نشره في حياته وعنوانه «أميركا والأميركيون» قائلاً إن ما شاهده والتقاه وعايشه خلال رحلة الأميال الطويلة، كان من شأنه ان يدفعه الى كتابة ألوف الصفحات الأخرى. وإذا كان شتاينبك جمع في «أميركا والأميركيون» عدداً كبيراً من مقالاته الصحافية القديمة، فإنه وكما قال بنفسه، اعاد النظر في كل تلك المقالات، على ضوء «الاكتشافات» التي فاجأته في عمق أعماق المجتمعات الأميركية ورصدها في رحلته. والحقيقة ان شتاينبك تعمّد في حديثه في كتابيه الأخيرين هذين ان يتحدث عن المجتمعات الأميركية في صيغة الجمع (على عكس كل الباحثين الذين يتحدثون عنها، في صيغة المفرد)، وذلك انطلاقاً من كونه اكتشف ميدانياً، ان ثمة مجتمعات في اميركا، بقدر ما هناك مدن وولايات. ولعل هذا يشكل إحدى الموضوعات الأساسية في الكتاب. إذ يبدو واضحاً فيه ان الكاتب لم يقم برحلة سياحية، بل ظل وفياً للفكرة التي دفعته اصلاً الى الانطلاق في رحلته: فكرة ان النص يجب ان يكون نوعاً من البحث عن اميركا. والبحث عن اميركا بالنسبة الى كاتب اجتماعي النزعة من طينة شتاينبك، ما كان يمكن ان يكون سوى غوص في عمق أعماق الإنسان الأميركي ومجتمعاته. والحال ان شتاينبك حين قرر القيام برحلته تلك، كان يعرف انه مريض وأن أوقاته باتت معدودة، بل ان ابنه الأكبر توم سيقول لاحقاً إن ما أدهشه كثيراً هو ان زوجة ابيه سمحت لهذا الأخير بالقيام بالرحلة وهي تعلم بمرض القلب لديه، وبأنه قد لا يعود من الرحلة ابداً. غير ان شتاينبك لم يبال بذلك، كان ما يهمه حقاً هو ان يتعرف الى تلك الأمة التي كتب عنها كثيراً، وعاش بفضل الكتابة عنها، لكنه اكتشف فجأة انه لا يعرفها كما يجب. وكان أكثر من ربع قرن، في ذلك الحين قد انقضى منذ تجول في الكثير من الولاياتالمتحدة، لذا كان يريد هذه المرة ان يرصد كم تغيّر هذا البلد وكيف كان تغيره، قائلاً: «ان استمرار كتابة مؤلف عن بلده الذي لا يعرفه حقاً، يشكل جريمة ادبية حقيقية». يوثق الكتاب، إذاً، للرحلة التي قام بها شتاينبك، في محاولة منه للعثور على جواب لسؤال كان يشغل باله، منذ سنوات طويلة وهو: كيف يبدو الأميركيون اليوم؟ وبالنسبة إليه، ولأنه دائماً ما اهتم في كتاباته بالإنسان الأميركي اكثر كثيراً من اهتمامه بالجغرافيا الأميركية، وهو مدرك تماماً ان اميركا هي انسانها، كان السؤال يعني في الوقت نفسه: كيف تبدو اميركا اليوم؟ أما الجواب الذي توصل إليه بعد ذلك السفر الطويل، فكان ان اميركا لا تزال حية وهي إذا كانت تغيرت كثيراً، فإن تغيرها لم يكن متلائماً مع توقعاته. خيبة أمل؟ في شكل إجمالي نعم. غير انها كانت اقل حجماً وأهمية من خيبات أمل صغيرة يتحدث عنها هنا أو هناك في الكتاب. ومنها مثلاً انه حين كان يعبر بالسفينة من لونغ آيلند الى كونكيتيكت، مر بقاعدة للغواصات النووية في نيو لندن. وحين قابل عاملاً في القاعدة، وجده شديد الحماسة للغواصات ولاستخدام الطاقة النووية عسكرياً، قال له الآخر: انه المستقبل يا سيدي ولا أحد يمكنه ان يقف ضد هذا المستقبل. ومرة أخرى حين وصل الى البلدة الجميلة التي ولد وعاش فيها زميله الكاتب الكبير سنكلير لويس، اكتشف ان احداً من اهل البلدة، لا يعرف شيئاً عن ابنها الكاتب ولم يسمع به. من مثل هذه الحكايات يتألف هذا الكتاب الذي يصف الطريق المتشعب والطويل المسار من ولاية مين، حيث كان المنطلق، الى بلدة شتاينبك الأساسية ساليناس فالي في كاليفورنيا، على المحيط الهادئ، عبر تكساس، ثم العودة من هناك عبر الجنوب الأميركي العميق وصولاً الى نيويورك. طبعاً، يصف شتاينبك في اقسام الكتاب الأربعة، الطبيعة وتقلباتها، ويصف أحوال المدن والأرياف والغابات والجبال والصحارى. ولكن من الواضح ان كل هذا لا يهمه كثيراً، أو لا يهمه بقدر، ما يهمه الناس، ولا سيما الاختلاف في الطبائع والأخلاق، ما يدل على انه التقى كثراً منهم، ومن شتى الأنواع والأجناس. وهذه اللقاءات أتاحت له احياناً ان يلتقط صوراً إجمالية، وفي أحيان أخرى صوراً جزئية. وعلى هذا النحو مثلاً نراه يصف لنا كيف ان سكان ماريلاند لا يحبون ان يتحدث إليهم أي غريب، فيما قد يصل سكان مدن او ولايات أخرى الى حد توجيه من يسألهم الى الطريق الخطأ عن قصد ولكراهيتهم مساعدة السياح. أما سكان القرى الصغيرة في الوسط الأميركي، فإنهم يبادرون ما إن يشاهدوا غريباً، الى التحدث إليه ومساعدته. ولعل من الملاحظات اللافتة طوال طريق الرحلة، الازدياد المذهل في عدد البيوت النقالة والحافلات التي يقيم فيها سائقوها. إنه، في رأي شتاينبك، نمط حياة جديد يشير الى نوع من التحرر من أسر المكان. فأنت تقطن هناك طالما تحب المكان. وحين تسأمه ويصعب عليك البقاء فيه، تنتقل ببيتك الى مكان آخر وهكذا. ويلاحظ شتاينبك، ان الناس لا يحبون حديث السياسة، وبالنسبة إليهم، السياسة الوحيدة التي تهمهم هي سياسة رئيس بلدية القرية أو البلدة أو حاكم الولاية. اما الحكم الفيديرالي، فلا شأن لهم به. وشتاينبك، في طريقه، يبدي من التعليقات ما يجعل من الكتاب، وفي شكل موارب، صورة شخصية له ولما يحب أو لا يحب. فعلى سبيل المثال يقول لنا ذات لحظة، في القسم الثالث انه يحب ولاية مونتانا، مفضلاً إياها على أي ولاية أخرى. لماذا؟ «لأن هذه الولاية لم يفسدها التلفزيون... بعد». وعلى طول الطريق لا يتوقف شتاينبك عن تذكر بعض أعماله، ولا سيما روايته الكبرى «عناقد الغضب» التي هي عبارة، ايضاً، عن سفر طويل، يقوم به عدد من أفراد عائلة تبحث عن الرزق ايام الكساد الأميركي الكبير في ثلاثينات القرن العشرين. في شكل عام، يمكن القول ان كتاب جون شتاينبك هذا، هو اشبه بسيرة لأميركا الحديثة، لأميركا القديمة والمتغيرة. كما انه اشبه بسيرة له شخصياً ولأعماله. ومن هنا أهميته، حتى وإن كانت شعبيته داخل أميركا تفوق كثيراً شعبيته في العالم، بحيث ان ناقداً قال عن الكتاب: «لو يقرأ العالم هذا الكتاب لتبدلت نظرته الى أميركا، ولما عاد احد في هذا العالم ينظر الى العالم الأميركي تلك النظرة الأحادية». والحال ان هذا يمكن ايضاً ان يقال عن مجمل أعمال شتاينبك (1902 – 1968)، الذي صوّر أميركا وتغيراتها، على اي حال، في كتبه الكبرى ومنها «شارع السردين المعلب» و «تورتيلا فلات» و «عن الفئران والرجال» وغيرها. [email protected]