ينسج الروائي الفرنسي المصري الأصل روبير سوليه في روايته «سهرة في القاهرة» (دار سوي، باريس 2010) ما يشبه الجدارية الروائية لمدينة هي القاهرة ولبلاد هي مصر ولزمن يتقطع ويتواصل بين مطلع القرن العشرين ونهاياته. والطابع «الجداري» هذا ساهم في اغناء الرواية تبعاً لكثرة الوقائع والأحداث والشخصيات التي شغلت هذا القرن الذي استعاده الراوي (شارل) من خلال ذاكرة العائلة «الشامية» أولاً (عائلة بطركاني) وعبر ذاكرته الشخصية هو الذي عاش الأعوام الأخيرة من العصر الذهبي للقاهرة ومصر، ثم عبر مذكرات خاله «ميشال» التي احتلت أحد عشر دفتراً وتوزعت طوال عقود. ولعل السهرة التي دعت اليها وأحيتها زوجة خاله أليكس وهي تدعى دينا، في منزل العائلة، كانت هي الحافز لاستعادة الوجه «القديم» للقاهرة، القاهرة الكوزموبوليتية، قاهرة المهاجرين الغرباء، الفرنسيين والبريطانيين والأرمن وأهل «الشام» أو السوريين - اللبنانيين الذين كانوا لجأوا الى مصر هرباً من النير العثماني. لكن الراوي الذي كان غادر القاهرة عام 1963 مع العائلة وفي ظنه أنه لن يعود اليها، لم يلبث أن وجد نفسه «مريضاً» بذكرياته هناك، في وطنه الذي عاش فيه طفولته وسنوات فتوته من دون أن يشعر أنه وطنه النهائي، هو المقتلع بصفته «شامي» الأصول. وهو لم يتردد في شأن هذا الاقتلاع الذي رافقه حتى بعد إقامته في فرنسا وتفرنسه وحصوله على الجنسية الفرنسية، فكان يعبر مراراً عن حال الاقتلاع هذه معتبراً أن عائلته لم تكن مصرية كلياً ولا غريبة تماماً. وهذا الجرح لم يشف منه، وقد يكون هو الذي حمله الى العودة التي أضحت عودات متكررة. وفي السهرة التي أحيتها زوجة الخال سمع الراوي (شارل) كلاماً أصابه في الصميم عندما قال له أحد الضيوف وهو عالم آثار فرنسي: «مصر تتمسك بك. أنت تعيش حداداً مؤجلاً وكأن عذابك وضع بين قوسين وتمّ تجاهله طوال تلك السنوات». ولعل هذا الحنين الغامض الى أرض الطفولة والفتوة ظل يستعر في قلب هذا الراوي الذي نعرف لاحقاً أنه يعمل في الصحافة وأنه بعد عودة أولى له الى مصر كتب تحقيقاً مهماً عن ورشات التنقيب عن الآثار التي قامت بها بعثة فرنسية متعاونة مع علماء آثار مصريين. وهذا الحنين هو بلا شك حنين روبير سوليه نفسه الذي حمل الراوي الكثير من ملامحه، روبير سوليه الذي كتب الكثير عن مصر القديمة والحديثة واستوحى منها أعمالاً روائية عديدة. وتميزت هذه الأعمال في مقاربتها التاريخ المصري، القديم والحديث، عبر عين سورية - لبنانية أو «شامية» كما يقال. وهذه المقاربة هي التي أضفت على نصوصه سمات فريدة، فأهل «الشام» الذين أقاموا في مصر صنعوا ما يشبه التاريخ الخاص الذي تتقاطع فيه الأحداث المصرية و«الشامية». بدا اختيار الكاتب عنوان روايته «سهرة في القاهرة» مصيباً جداً وطريفاً جداً. أما دينا التي أقامت السهرة، فهي آخر من تبقى من عائلة «بطركاني» الشامية المهاجرة، في مصر، بعد وفاة الأب أندريه، شقيق زوجها الذي كان رفض أن يغادر مصر بعدما غادرها أشقاؤه وشقيقاته غداة إعلان ثورة الضباط الأحرار عام 1952 وما تلاها لاحقاً من تأميم ممتلكات وتضييق في الحريات وعزل للجاليات الأجنبية ومصادرة للمدارس والمراكز. وجاءت من ثم حرب السويس عام 1956 لتزيد من اضطرام نار الحقد على الفرنسيين والبريطانيين واليهود وتدفعهم الى مغادرة مصر التي كانت بمثابة وطن أول أو ثان لهم. فالقاهرة لم تعد حينذاك «المدينة الكوزموبوليتية» كما يعبر الراوي، المدينة التي جذبت مواطنين من العالم وصنعت لهم مكاناً بديلاً وجدوا نفسهم فيه. ويقول الراوي في هذا الصدد: «كانت المساجد والكنائس اليهودية تختلط بالكنائس المسيحية المتعددة الطوائف. الحانوتي كان يونانياً، المصوّر الفوتوغرافي أرمنياً، الخباز أو صانع الحلوى سويسرياً، الجواهري مالطياً، الكواء من الدلتا والفوّال من الصعيد...». إلا أن الراوي الذي ظل متعلقاً بهذا العالم، عالم طفولته الجميلة، أو فردوسه المفقود يدرك جيداً أن هذا العالم اختفى ومع ذلك يظل «يترقب طرقات قلبه وابتساماته» وكأنه حيّ. شعر الراوي أن «شيئاً ما انكسر» عندما غادر مصر ويشعر الآن أن «المشاعر حل محلها التفكير»، لكنه على يقين أن «مصر الأمس لم تمت كلياً: اشعر بها ترتعش، في لحظات من النعمة خاطفة، إنها تعود مثل شبح». والآن، عندما اعتاد الرجوع الى القاهرة، عاودته الرغبة في المشي في شوارع القاهرة، هذا المشي الذي يتيح له فرصة «الذوبان بين المارة» و «العبور» من دون أن ينتبه له أحد. وكلما عاد الى القاهرة بعد كسره قراره يساوره القلق والاضطراب كأن يقول: «لا أنام البتة جيداً في ليلتي الأولى في القاهرة. أفكار كثيرة تتزاحم في رأسي، أحلام كثيرة مضطربة ومشوشة». العودة الى القاهرة هي بمثابة العودة الى الوراء الذي لم يبق منه إلا بضعة أطياف. إنها أيضاً استعادة لأيام انقضت وكأنها لم تكن. يرسم روبير سولي «خريطة» عاطفية للقاهرة ومصر، «خريطة» لا تغيب عنها الأحياء الأليفة والشواطئ والمناطق والشوارع والصحراء والبحر. وكان لا بد من أن يستعيد الأماكن الحميمة التي تحتل جزءاً من طفولته ومن حياة العائلة: الغاردن سيتي، السبورتينغ، الزمالك، العجمي، هليوبوليس، الأزبكية، ميدان التحرير، غروبي وحلوان... ولم تخل «الخريطة» العاطفية من معالم العائلة، عائلة الجد جورج بطركاني الذي حظي بلقب «بيه» من المرتبة الأولى عام 1926 وكان يملك أهم مصنع للطرابيش في مصر حتى أنه لقب ب «ملك الطربوش». لكنه أجبر على اغلاق مصنعه بعيد الثورة ومات عام 1958 تاركاً وراءه أبناءه وبناته وأحفاداً ليسوا كثراً. أما العائلة فيرسم الراوي لها صورة تضم «بورتريهات» طريفة للأخوال والخالات ولفيفهم: الخال أندريه يقرر أن يصبح راهباً «جزويتيا» فيغضب أهله، ميشال العازب يدوّن حياته في مذكراته ويموت في سويسرا، اليكس الذي يهوى السيارات ولعبة البليار يتزوج من دينا ويهاجران الى لبنان، بول يتزوج من امرأة سويسرية وينسى ماضيه، الخالة لولا، والأم فيفيان والصهر سليم يارد والد الراوي... إنها صورة مختصرة عن عائلة بطركاني «الشامية» الأصل، المصرية الغريبة التي ما لبثت أن تشتتت بعيد الثورة المصرية وانتشار الحركة الناصرية، في شتى أنحاء العالم: لبنان، فرنسا، سويسرا، كندا، البرازيل... إنها العائلة المحكومة بالهجرة الدائمة والاغتراب، العائلة التي عرف ميشال (الخال) كيف يكتب تاريخها للمرة الأولى في مذكراته، ثم أعاد الراوي شارل كتابة هذا التاريخ (العائلي) جامعاً بينه وبين التاريخ المصري الحديث. وقد اعتمد الراوي «مذكرات» خاله الذي كان يدمن القراءة لا سيما قراءة المجلات المصرية الفرنكوفونية، فأورد صفحات منها داخل الرواية، جاعلاً منها «مرايا» صغيرة تنعكس عليها وقائع الماضي. أما السهرة التي دعت اليها دينا، زوجة الخال اليكس، التي لا تقل عنه طرافة وجنوناً وعبثاً، فكانت بمثابة السهرة الوداعية للقاهرة أولاً ثم للبيت العائلي ثم للعائلة نفسها. وبدا البيت يشبه المدينة نفسها في تداعيه وبدء خرابه وكذلك العائلة أيضاً التي تبعثرت في العالم. إنها سهرة وداع للقاهرة التي كانت ذات زمن، قاهرة ما قبل الثورة، قاهرة الجمال والرخاء والانفتاح والألفة. هذه السهرة شاء الكاتب أن يصوّرها وكأنها لقطات في فيلم سينمائي، جاعلاً من الأشخاص المدعوين شخصيات طريفة وعابرة، شخصيات من لحم ودم، مصرية وفرنسية، مسلمة ومسيحية، مسكونة بالذكريات والعواطف... ويعمد الراوي الى «عرض» هذه الشخصيات وكأنها فعلاً أمام كاميرا سينمائية: لطفي سلامة، أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة، صديق دينا، يحب الشعر الفرنسي الكلاسيكي ويصر على استخدام عطر «أولد سبايس» الذي فاته العصر، جاك لوي شو فينار ديبلوماسي فرنسي، جوزي جوسلان عالم الآثار الفرنسي وزوجته الأميركية بتي، براهونك عالم الآثار، مادلين لاشو، فلورا وكلبها، لوديفين، هدى، ناديا نسيب، نجم الورداني، أميرة التي تنال اعجاب الراوي فيضربان موعداً في مقهى «ريش» الشهير قرب ميدان التحرير في القاهرة... كان المدعوون كثيرين ولم تخل السهرة من الحوارات الطويلة والنكات والطرائف وكذلك من الموسيقى الشرقية والغربية والرقص... ولم تخل السهرة كذلك من خدام البيت القديم ومن سائق العائلة السابق يسّى القبطي الذي يسمى «رجل المطار»... كلهم اجتمعوا هناك في تلك السهرة الوداعية، مشكلين في اختلافهم وتعددهم صورة للقاهرة كما كانت في عصرها الذهبي. ولا يتوانى بعض المدعوين عن الكلام عن القاهرة الراهنة والقاهرة السابقة، وعن رواج الأصولية وانتشار الحجاب في قاهرة هدى شعراوي التي يذكرها الخال ميشال في مذكراته، وبروز الخوف الأقلوي الذي كان خبيئاً في الصدور. استطاع روبير سوليه في هذه الرواية الجميلة التي تناهز المئتي صفحة أن يختصر عصراً بكامله، هو عصر مصر والقاهرة في القرن العشرين، هذا القرن الذي شهدت مصر خلاله تحولات ووقائع وأحداثاً مصيرية. واللافت في هذه الرواية، أن روبير سوليه، المتخصص بالتاريخ المصري والمصاب بالهوى المصري، نجح في كتابة تاريخ عاطفي لهذه الحقبة، تاريخ حقيقي وعلمي ولكن مشبع بالكثير من الحنين، الحنين الغامض والشوق والألم. فالرواية هي رواية مصر مثلما هي رواية العائلة بطركاني مثلما هي رواية هذا البيت الذي بدأ يتداعى في غياب أصحابه. يكشف الراوي في الختام أن زيارته للقاهرة في المرة الأخيرة هذه، كانت غايتها اعلام زوجة الخال برغبة الأسرة أو مَن تبقى منها في بيع منزل العائلة... لكن المفاجأة الجميلة والأليمة التي لم يكن الراوي ينتظرها هي أن الخالة كانت تسعى لاعلام العائلة المشتتة بمشروع بيع المنزل الى جمعية تسعى الى جعله متحفاً للاستقلال المصري الذي تم عام 1919، وعلى رأس اللجنة جنرال يدعى حسن صبري كان عمه يعمل لدى العائلة وبروفسور قبطي يدعى منير بطرس. لعله أجمل قدر كتب لهذا البيت، بيت العائلة بطركاني، صاحبة أهم مصنع للطرابيش في تاريخ مصر... وتبلغ الطرافة ذروتها عندما يستعاد رمز الطربوش الذي ارتبط بحركة الاستقلال، فالثوار حينذاك خاضوا معركة الاستقلال بالطرابيش.