خلال أشهر الثورة السورية حاول النظام الاستمرار في سياسة «فرّق تسد»، من خلال محاولة تأليب السوريين بعضهم على بعض: الطائفة على الطائفة؛ المدينة على المدينة؛ الحي على الحي. واستخدم لهذه الغاية مؤسساته، الأمنية منها على وجه الخصوص، وشبكات مخبريه غير المسبوقة إلا في الأنظمة التي تشبهه في شموليتها. لكن النظام الشمولي كان يواجه عملية لم يعهدها، حيث جموع شعبية تنشقّ عن سيطرته وإيديولوجيته، وتنبذ مؤسساته صانعة بديلاً عنها آليات أهلية للإدارة الذاتية، حيث استطاعت. فأخذ الصراع بين النظام والشعب، على نحو متصاعد، شكل صراع بين سلطتين: واحدة تضعف، بمقدار ما أدرك الناس عناصر قوتهم، وزادت وطأة آلة القتل فعضّدت الافتراق النفسي بينهم وبين حكامهم؛ وأخرى هي سلطة المجتمع الثائر، التي يشتدّ عودها تحت الضربات. وفي أتون الحرب التي أعلنها النظام على المجتمع، انصهرت الأنا الجماعية للأخير، لتعود للتشكّل وطنية جديدة يبني الناس تفاصيلها في سياق مواجهتهم الامتحان المهول. وطنية تعددية، لا يعيبها أنها ليست كتلة صمّاء كما صوّر النظام الوطنيات. وهي لا تنحو باتجاه طمس الخلافات نتيجة توهّم أن إنكار وجودها يساوي عدم وجودها، أو تحت ضغط الاستكانة لاستحالة حلها، كما كان الحال عليه قبل الثورة. يعيش المجتمع السوري عملية إعادة إنتاج على نطاق واسع، تحت ضربات لم يتوقع أحد أنه قادر على تحملها. ويتعرف في خضمّها الى نفسه ومشكلاته، ويعمل من دون تهيب على معالجتها عبر مؤسسات بسيطة يصنعها ناشطوه ومثقفوه، وعبر بناه الأهلية. ويوماً بعد يوم تزداد خبرة الناس، ويزداد تمييزهم للسلوكيات والأفكار المؤذية لوحدتهم وتحررهم فيتجنبونها، وتلك المفيدة فيعممونها. وهو ما يبرر قدرتهم على تجنب حرب طائفية –حتى الآن- دفعهم إليها حكامهم بكل السبل والوسائل. وفي هذه العملية يبرز دور المثقّف النقدي، الذي يمارس بدوره سلطة الكلمة، فيصوّب سهام النقد من دون تردّد على مواقع الخلل، وينبه لمخاطر الاستكانة لحتمية الانتصار على النظام والمشكلات التي يخلقها. الوجود الفلسطيني في سورية من القضايا التي عالجتها هيئات الحراك الشعبي بحكمة، حيث تعاملت بحساسية عالية معه؛ فتجنبت الاحتكاك بالمخيمات، حتى ولو من باب ردّ الفعل على دفع أجهزة الأمن شبيحة من مخيم خان دنون في دمشق، ومخيم النيرب في حلب، لمواجهة المتظاهرين. وبدلاً من الانفعال قامت التنسيقيات، حيث ظهر التشنّج، باللقاء مع من تعرف فيهم الحكمة في المخيمات لتدارك الانزلاق إلى التصادم، وقلّما فشلت في مسعاها. ساعد في نجاح هذا التدبير التفاعل المبكر من الشبان الفلسطينيين في مخيم اليرموك مع الثورة السورية، من خلال التظاهر في المناطق المجاورة للمخيم، تحديداً الحجر الأسود والميدان وحي التضامن. وهو ما تلقى دفعاً كبيراً بعد أحداث مخيم اليرموك في 6/6/2011، حين أعطى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة، أحمد جبريل، الأمر لعناصره بإطلاق النار على المتظاهرين المستنكرين لما اعتبروه «المذبحة في الجولان» يوم النكسة، والتي كان قد شارك وتنظيمه، مع «حزب الله» وأجهزة أمن سورية، في إعدادها. حينها أدرك الشبان الفلسطينيون ما يُعدّ لهم وللشعب السوري، وأدركوا أنهم ليسوا مخيرين حتى يختاروا الحياد. وفي التجربة تعرّف الشباب الى بعضهم بعضاً، في بلد حرص الحكم فيه، عبر أدواته، على تفرقة الناس جاعلاً منهم مجتمعات متجاورة متفارقة. ومن خلال شبكة العلاقات الإبداعية (عملت لجان تنسيق محلية على احتضان لجان التنسيق الفلسطينية التي نشأت بمبادرات شبابية، وتفاعلت مجموعات الأحرار من الطرفين) ذابت الحدود، وزادت عناصر الوحدة، ليخرج الشعب السوري منتصراً أيضاً في تحدّ جديد. وكان مخيم درعا الأمثولة لعلاقة تم تصويبها، حين تحول طوال أشهر الثورة إلى مستشفى ميداني قبل أن تتخذ السلطة القرار بقصفه على رؤوس سكانه. وكذا حال مخيم العائدين في حمص، الذي تظاهر للدفاع عن الجرحى السوريين في مستشفى بيسان، وأصر على أن من يدخل المخيم جريحاً آمن، إن كان من الثوار أو الأمن. وهو ما قبلته الأجهزة الأمنية على مضض، ويتوقع أن تتراجع عنه للانتقام من المخيم حين تتفرغ له. لا يقلّل من نصاعة صورة التلاقي بين الفلسطيني السوري وسوريته نجاحات محدودة للأجهزة الأمنية، وعملائها الفلسطينيين، في تجنيد شبيحة فلسطينيين، كما لا يقلّل من نصاعة الثورة أن من يواجهها هم من السوريين. بالعكس من ذلك، فإن مراقبة حجم النجاح الضئيل لأدوات النظام يبعث على الاستغراب! كيف أن تنظيمات فلسطينية، كانت طوال عقود جزءاً لا يتجزّأ من النظام السوري، فشلت في امتحان تجييش مجتمعها لخدمته عندما خضعت لامتحان الثورة الشعبية عليه. هذا أيضاً مشترك سوري عام، فالشعب السوري بكلّ مكوناته استطاع التخلص من تأثير المنظمات التابعة للنظام. في كل يوم من أيام الثورة كان الشعب السوري يزداد وحدة في مواجهة عوامل التفكك التي يعمل النظام على توسيعها، ولا يستثنى من ذلك المكوّن الفلسطيني السوري. وإذا كان بقاء النظام على رغم ترهّله، واحتفاظه بعناصر قوة على رغم إنهاكه، ينذر بمزيد من المشكلات، فإن نجاحات الحراك الشعبي تبشّر بقدرته على التصدي لها بالسبل التي ابتدعها، وتدلّ على أن الخبرة التي يكتسبها ستتيح له إنتاج عوامل حصانة جديدة كلما احتاج لها. وهي الدينامية التي لا غنى عنها لضمان أن آثار الصراع الراهن لن تتحول إلى وقائع عنيدة تهدّد مستقبل الشعب السوري.