وسط المدينة القديمة في عمان، ثمة مَن ينشد إصلاحاً برائحة الخبز. يبحث عمّا يقيته بين أكوام القمامة وزقاق مطاعم مهترئة، تلفها معاناة آلاف الجوعى والمحرومين. هؤلاء ليسوا معنيين بإصلاحات سياسية ولا حتى دستورية، ما يهمّهم «لقمة طرية تمنع عنهم الحاجة الى الآخرين»، في بلد تعصف فيه احتجاجات تتصدرها المطالبة بإصلاحات سياسية ومحاربة للفساد. بقليل من الأمل، كان يجرّ قدميه المتشققة في شارع «السلط» القديم، باحثاً عن كسرة خبز بين أكوام القمامة. رجل في العقد السابع، تأبط بين ذراعيه منافض غبار وتوجّه نحو البلدة القديمة، في محاولة للظفر بدنانير معدودة، تحفظ له ما تبقى من كرامة! بائع المنافض هذا غير معني ب «تغييرات سياسية ومكافحة للفساد»، على حد قوله: «ما أريده مهنة مريحة تخفّف آلامي وأوجاعي، بعد أن تنكّر لي أقرب الناس وأولادي». ويتابع: «يأتي المتظاهرون إلى هذا المكان أيام الجمعة يهتفون ويحتجون، لكني لم أسمع أحداً منهم يهتف للخبز. في هذه المنطقة عائلات تتضور جوعاً ولا تجد الملح، وكثيرون منهم لم يشتموا رائحة اللحم منذ سنوات». وعلى الجهة المقابلة لسوق البخارية الذي يختزل قصص «الفقر المدقع»، يرابط الحاج أحمد الأردني من أصل فلسطيني منذ ستينات القرن الماضي، حاملاً بين ذراعيه ملابس وقطع قماش للبيع. تجاعيد وجهه وسحنته السمراء كفيلة بسرد فصول معاناته القاسية، فهو منذ سنيّ النكبة يقف في المكان ذاته طالباً رزقه. يقول بصوت مبحوح: «بدي أعيش بكرامة... اللي بَجْمَعُو طول اليوم يا دوب يسكت جوعي». ويحاجج «عن أي إصلاح وشعارات بحكي الناس، ما بدي إلاّ أنام شبعان». وفي زقاق سوق الخضار الملاصق لساحة المسجد الحسيني أقدم مساجد المملكة في وسط المدينة، قصة مماثلة، فثمة رجل في العقد الثامن أطلق لحيته البيضاء وشعر رأسه وهام على وجهه بصمت، مصدراً إيماءات غير مفهومة. يتجول بين بائعي البسطات ويحمل على ظهره المحدّب بضائعهم، ليحصل أخر النهار على رغيف من الخبز، وقليل من حبات الخضار. يتجاهل العجوز المارة ويكتفي بنظرات الشك والحنق، منصرفاً إلى احد الأزقة التي باتت ملاذاً له منذ سنوات، كما يقول أصحاب المحال المجاورة. 14 في المئة تحت خط الفقر يختزل عمّانيون المشهد في قاع المدينة الأردنية، ببحثهم عن إصلاح يوفر لهم الخبز والحياة الكريمة، فما يعنيهم بالدرجة الأولى «إصلاح اقتصادي ينشلهم من مستنقع الفقر». وتتعالى صيحات المطالبين بالتغيير، وسط ضجيج البلدة القديمة، وترتفع شعاراتهم في السماء، لتقول إن الإصلاح السياسي مفتاحٌ لإصلاح اقتصادي واجتماعي يؤمّن خبز الأردنيين ويطفئ جوعهم. بيد أن الصحافي الأميركي تايلور لاك المقيم في عمان يختزل المشهد في كلمات: «إذا لم يدرك الحراك الشعبي أن الأردنيين مهتمّون بأسعار الخبز أكثر من الإصلاح، فسيظل المشاركون في تظاهرات يوم الجمعة بالمئات، لا عشرات الآلاف. رفع الطهاة في المطبخ السياسي للحرارة قليلاً سيكون من خلال الاهتمام بالوجبة التي تهمّ الناس». وفي الأردن وفق الأرقام الرسمية، حوالى 14 في المئة من السكان تحت خط الفقر. ووفقاً لدائرة الإحصاءات العامة فإن معدل البطالة في البلاد يبلغ 12 في المئة، ومعدل البطالة بين الشباب دون سن 30 سنة يبلغ ضعف هذا الرقم، علماً أن هؤلاء يشكلون 70 في المئة من السكان. والدراسات السنوية الصادرة عن البنك الدولي حول تصنيف الفقراء في الأردن، تظهر أن عددهم يتجاوز 600 ألف. إلاّ أن الصحافي والمحلل الاقتصادي حسن الشوبكي، يشير إلى دراسات محلية غير رسمية، ترى أن عدد الفقراء في الأردن يتجاوز ما نسبته 35 في المئة من عدد السكان الذين يقدر عددهم بنحو 6.7 مليون نسمة. وغالباً ما تتحدث الحكومة الأردنية عن أهمية الإصلاح الاقتصادي، من خلال وعود تطلقها بضرورة مراجعة نظام الضرائب المفروض على المواطنين، وتوفير الدعم اللازم للشرائح الفقيرة، عبر فواتير الدعم المخصصة للسلع الضرورية... لا سيما الخبز!