في 20 تموز (يوليو) 1969 حطت مركبة «أبولو 11» على سطح القمر ومنها نزل رائدان فضائيان وراحا يخطوان الخطوات الأولى على تراب هذا الكوكب، جار أرضنا، وسراجها في الليل... كان النزول الأول على سطح القمر حدثاً علمياً مثلما كان حدثاً إيديولوجياً وسياسياً في غمرة النزاع التاريخي بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي... لكنه كان ايضاً حدثاً ثقافياً وشعبياً لارتباطه بالمخيلة البشرية التي طالما حاكت حوله القصص والحكايات الخرافية والأساطير. في الذكرى الأربعين لنزول أول إنسان على القمر، التي يحتفل بها العالم سألت «الحياة» شعراء وروائيين عرباً عن تلك اللحظة التاريخية وكيف يستعيدونها بعد أربعين عاماً. وهنا الشهادات. محمد البساطي: ما من شك في ان حدث هبوط الإنسان للمرة الأولى على سطح القمر هو حدث مذهل. فيكفي أنه جعل الإنسان يغير وجهة نظره إلى العالم، وإلى الكون، كما جعله يلتفت إلى ان ما يقرأه عن الكواكب والنجوم بما فيها الشمس والقمر ليس صواباً دائماً. لكنّ القمر ظل هو القمر رمز الضياء والعذوبة والرقة... فهذه الحادثة وعلى رغم أهميتها لم تغير الصورة التي نراها للقمر في السماء، فقد ظلت وستظل رؤيتنا له ثابته كما هي لن تتغير، ما تغير فقط هو مفهومنا عنه، بعد ان اكتسب بفضل هذا الحدث المذهل كثيراً من الشكوك. أمجد ناصر: أظن أنها لحظة من المشاهدات الخارقة. شيء يشبه السينما التي كنت أتسلل اليها بعيداً عن أعين الأهل في مدينة الزرقاء. شيء يشبه الخيال العلمي، بل هو الخيال العلمي الحقيقي لتلك الفترة. لو كنت شاعراً يومها لما أعجنبي الأمر ربما، لو كان قلبي يدق، آنذاك، لسبب آخر غير الخوف أو الهلع لما أعجبني الأمر أيضاً. فيكف يتحول القمر، مجاز الشعر الشهير ومجاز العشاق الأشهر الى كومة من تراب وصخور وتجاعيد؟ لكنني لم أكن يومها شاعراً ولا كنت أعرف حقاً ما هو الحب، حتى لو عرفته ما كان سيتغير شيء. فلم يكن القمر من معجمي ولا له معنى مختلف في ذهني. كنت على حدود المراهقة. كانت القوة والجسارة هما اللتان تفتنان واحداً مثلي لا الهشاشة، لا الشحوب، لا السرحات الرومنطيقية. بهذا المعنى كنت واقعياً، ولداً يرى العالم، في حي شعبي تسيطر على أزقته الضيقة العصابات وتلمع فيها أنصال السكاكين، من منظور البقاء الصرف. لم يسقط القمر، مأسوفاً عليه، من مدونة التمارين الكتابية الأولى ولا من علو قلبي. كان ذلك الهبوط البطيء لرجل ببزة قصديرية مربعة من مركبة فضائية غريبة، مثل مشهد سينمائي. الفارق أنني لم أره في السينما ولكن على شاشة تلفزيون يقدم وصلات مشاهدة لمسلسلات عربية وأجنبية لأولاد الحي مدفوعة الأجر. نحن الأولاد صدقنا ما يحدث أمامنا. أهلنا لم يصدقوا. شيخ الجامع كذَّب ذلك في صلاة الجمعة. قال إنها تمثيلية صورت في الصحراء. فقد كان يخشى، على ما يبدو، أن يكون ذلك تجديفاً، تحدياً للسماء، صعوداً الى حيث الله. شيخ الجامع المسكين ظن، على الأغلب، أن المطلق هناك وهؤلاء الكفرة يطأون عتبته. الغريب أن مجاز القمر، الذي تكشف لنا أرضاً أكثر جدباً وتصحراً من أرضنا، كان أقوى من واقع القمر. فلم يسقط من القصيدة نهائياً، لم يبد مضحكاً في الأغنية، لم يهجر معجم العشق والعشاق، لم يتغير موقعه في الوصف. المجاز أقوى من الواقع. الشعر أقوى من المركبات الفضائية. والأغنية التي تقول: «نحنا والقمر جيران» تبقى، على رغم أن رجلاً ببزة قصديرية مربعة وطأ المجاز بقدمه. عباس بيضون: لا أملك ذكرى خاصة عن اللحظة التي علمت فيها بنزول أول إنسان على سطح القمر، ومردُّ ذلك إلى النسيان. لكنني شاركت الآخرين في انفعالهم بما جرى، مع أن مسألة كهذه ليست بما تثيره في حينها، وإنما هي على الأغلب تدوم طويلاً، وتكون آثارها في ما بعد أقوى من آثارها في حينه. أعتقد أن نزول أول إنسان إلى القمر يعني خروج الإنسان إلى الكون. في هذه اللحظة أيقنا أن الأرض ونحن معها، لسنا سوى جرم صغير في كون، لن نتوقف بعد الآن عن التوغل فيه، وعن الشعور أننا كلما ازددنا ضآلة، ازدادت سرية الكون ومستغلقاته علينا.هناك من يرى أن النزول إلى القمر أفقدنا جزءاً من خيالنا، وبدا القمر جُرماً موحشاً لا يشبه مثاله في الشعر والأغنيات، وكأن القائلين بذلك يريدون الإفادة بأن العلم دمَّر خيالنا. الحقيقة غير ذلك، بل على العكس، فمع نزول الإنسان على القمر والدخول في الكون، بدا خيال المرء أقل بكثير من الحقيقة. فعلم الفلك أوسع خيالاً من الشعر، والأرجح أن الشعر بعد هذه الغزوة للكون تراجع عن إدعاء الخيال أو عن اعتماد الخيال سبباً وأساساً. أيقن الشعراء منذ ذلك الحين أنهم أقل خيالاً بكثير من العلماء، وأيقنوا أيضاً أن خيالهم الأرضي ليس شيئاً في مقابل الخيال الكوني الذي لا يملكونه، وبات على الشعر أن يبحث عن عامل آخر أو ساحة أخرى. لم يقضِ النزول إلى القمر على الخيال، بل أطلقه أكثر بكثير منا ومن أرضنا وأدبنا، وعلى الأرجح أن الأدباء العرب كانوا أقل تأثراً، فقد جرى النفاذ إلى الكون بعيداً منهم. رفعت سلام: لا أذكر الآن تماماً كيف استقبلتُ الحدث آنذاك إذ مر أربعون عاماً كاملاً على الذاكرة المتخمة. لكن الأرجح أنه الاستغراب من الحدث، وأسئلة متحيرة عن كيفية الوصول إلى هناك، فيما كنا نتعثر ونعاني في الوصول من القرية إلى المدينة. لم يكن القمر من مفرداتي الحياتية الأثيرة، على رغم أنني كنتُ أخرج وقتها نفسياً وحياتياً من القرية الصغيرة إلى القاهرة. كما لم يكن من مفرداتي الشعرية. لا قمر في قصائدي القديمة غير المنشورة، ولن يحتل مكانةً ما في الأعمال الشعرية اللاحقة - لعلِّي مضادٌّ منذ صغري للرومنطيقية. لم أتعلق به في مراهقتي الريفية، مع أن الأشعار التي كنتُ أقرأها في ذلك الحين، والأغاني الرائجة في «الإذاعة» المصرية، كانت متخمةً به، كمرادف للحبيبة، أو نجيٍّ للعاشق الولهان. كان، بالنسبة الى ذلك الفتى الريفي، ظاهرةً طبيعيةً شأن الشمس والنهر والأشجار والطيور المحيطة به، من دون أن ترتقي العلاقة الافتراضية إلى نوع من التصعيد الخيالي و «الأنسنة» المعتادة في الوعي الرومنطيقي. أما الآن، فلعلي أعتبرها خطوة إنسانية جبارة، على صعيد العلم والتقدم التكنولوجي. لكنني سرعان ما تدهمني الأسئلة حول تلك الفجوة العلمية والثقافية الهائلة بيننا - في مجتمعاتنا العربية - وبينهم؛ وحول واقع مجتمعاتنا العربية المتخبط في الحضيض والأفكار الظلامية المنتشرة، على نحو أو آخر؛ وحول انتظار يطول ويطول للخروج من نفق يبدو بلا نهاية. إنه حدثٌ هائل يطرح علينا الأسئلة الجارحة، التي لا إجابة شافية عنها. ويمر الحدث، ويأتي آخر، ولا تزال الأسئلة المطروحة علينا مشرعةً؛ إلى متى؟ موسى حوامدة: هبوط أول إنسان على سطح القمر يعد أول اختراق شعري يجسد عبقرية الإنسان وسعة خياله من ناحية عملية، لأن عمر الخيّام الذي كان يمتلك مرصداً فلكياً كان يفكر بوسيلة تنقله إلى تلك النجوم وجاء من يجسد خيال الإنسان عملياً للوصول إلى سطح القمر وفتح شهية الشعراء على النظر أعلى إلى السموات. الشاعر مطالب دائماً بالتحدث إلى السماء ليس لاستمطار الأفكار منها، بل لنقل الواقع أعلى فأعلى. والهبوط على سطح القمر هو أساساً فكرة شعرية خلاقة، إذ بات في إمكان الإنسان الصعود إلى أعلى ليس خيالياً فقط بل عملياً أيضاً، حتى النظر إلى الحياة اليومية عبر قصيدة التفاصيل من دون الخيال المجنّح سيكون حصاده مجرد حديث عادي. سعيد الكفراوي: طار الأميركيون إلى القمر، وهبطوا عليه في العام 1969. ضجت الدنيا بالخبر، وصاح البعض في قريتنا النائية، هذا الحدث دلالة على قيام الساعة. وسمعت يومها فلاحاً يقول: «يطلعوا القمر والله ولا الحواديت! يومها قال لي جدي العجوز القادم من القرن الأول الهجري: صحيح حكاية القمر ديه يا ابني... ولما أكدت له الأمر ركن عكازه الى الحائط وصفق بيديه وقال: «والله عجايب!! بطلوا ده وسمعوا ده». وسيدنا القمر لمن لا يعرف أقرب جيراننا، وهو أكثر الأجرام سطوعاً، ولذلك أحببنا البنات أول العمر على ضوئه، ومشينا في الغيطان وعلى السكك، وفي الساحات نغني حين يكون مزهزهاً، وضوؤه يحيي المخلوقات في الليل وهو أيضاً يحيي الحب، وهو مثل «شقة البطيخ» أو في منتصف الشهر العربي يكون بدراً فيشتد السحر ويكتب الشعراء قصائدهم المبللة بالدموع. منذ أن نزل الأميركيون على سطح القمر وهم يذبحون خلق الله واستخدُمت الرأسمالية غير القابلة للإصلاح في مذلة العالم، ودفعنا نحن العرب ثمن سيادة الصهيونية بالمباركة الأميركية، التي بدأت في القرن التاسع عشر... خرج البعض علينا حينذاك، وقال: «تمثيلية الصعود الى القمر لم تحدث وما تم تصويره فيلم «بايخ» أنجز في صحراء «نيفادا»، والدليل على ذلك رائد يقفز في الفضاء له ظل، والقمر بحمد الله لا يعكس الظلال ولا يحزنون». علوية صبح: أربعون عاماً هي مسافة بعيدة إلى درجة أنني أستعيد رد فعلي كشيء يشبه المنام. أذكر حينها أنني انحزت إلى قول السيدة فيروز حين سألوها تعليقها على الحدث فقالت: «يصطفلو، القمر بالنسبة لي رح يضل القمر اللي غنيتو». لقد صدقتها لأنني أصدق فيروز أكثر مما أصدق العلم. رحت أستعيد كل ما غنته عن القمر، ووجدت وما زلت أجد، أن قمر الرحابنة وفيروز هو قمري، إنهم جزء من ذاكرتنا ومن تذوقنا الأول للعالم والحب والطفولة وأشياء كثيرة من بينها القمر. لطالما كنا نشبِّه القمر بالحبيب أو الإنسان المثالي، وكتبت في إحدى رواياتي، أنني حين كنت أنظر إلى القمر وأنا طفلة، كان يخيل إلي أنه عبدالناصر، وأحياناً كنت أرى فيه الفتى الذي سأحب وأعشق لاحقاً. على كلٍ، الحقيقة العلمية لا تلغي الشعر والأغنية والتصورات والرؤى الفنية، والوهم دائماً هو جزء من الواقع كما الواقع جزء من التخييل، لذلك لا العلم هو علم صرف ولا الجمال منفصل عن حقيقة الأشياء. بهاء جاهين: كنت نسيت تماماً حكاية هبوط الإنسان على سطح القمر، التي حصلت قبل أربعين عاماً. وقتها شاهدنا بالصوت والصورة كم أن وجه القمر مكدور، هذا القرص الفضّي الشفاف، ما هو إلا كوكب مملوء بالفوهات البركانية الخامدة. الحدث وقتها كان بمثابة لطمة أفاقتنا وأثّرت في نظرتنا الرومنطيقية إليه. لكنني شخصياً ومع مرور الوقت نسيت تماماً ما حدث وما زلت أنظر اليه في السماء. هذه الحادثة على رغم أهميتها لم تؤثر في رؤيتنا الى القمر الذي لا يزال حاضراً، بصورته القديمة الرومنطيقية المتخيلة، وبصفته عنصراً من عناصر الطبيعة كالشمس والبحر ومفردة من مفردات الشعر. حسن داود: لم أوفق في أن أفهم المغزى الرومنطيقي المحيط بالقمر، دائماً كنت أعزو رومنطيقيته إلى مخيلات بشر سواي، ربما كانوا من سبقونا إلى التغزل وحب الشعر. كنت في أحيان كثيرة أجده مؤنساً خصوصاً في ضيعتنا التي كانت قبل النزول إلى القمر بسنوات قليلة خالية من الكهرباء. كان ضوؤه منعشاً في الصيف، وكنا في طفولتنا نُشبِّهه بوجه رجل، فنعيد ما يظهر من أطياف تضاريسه لنكوِّن وجه رجل تام. في مثل هذا اليوم بالذات، كنا مجموعة شبان نتفيأ قرب نبع الدردارة، وقف محمد العبدالله وقال لنا: لقد نزلوا على سطح القمر، وهذا الذي إسمه نيل أرمسترونغ يمشي على سطحه. لم تسعفنا مخيلتنا يومها في أن نهيّء لهذا الحدث ما يناسبه من صور وأفكار. قال كثيرون حينها أن القمر دخل مرحلة جديدة في تاريخه، وبعضهم قال أنه أصبح رملاً ورماداً بعد أن كان ضوءاً ونوراً. كان ذلك غير قابل للتصديق، وكانت صدمة بل ومفاجأة، إلى حد أن من هيأوا لها وصنعوا حدثها، لم يتقدموا خطوة واحدة إضافية عن ذلك التاريخ، وكأن ذلك بات من ماضي البشرية المجيد كما نقول عن أهرامات الفراعنة. ما زلنا نسمع شكوكاً حول إذا كان ما جرى حقيقياً، خصوصاً أننا قرأنا عمّن يحاول إثبات ذلك، على اعتبار أن العَلم الأميركي الذي رُفع على سطح القمر كان يرفرف، في حين أن سطح القمر لا هواء يمخره. محمد أبي سمرا: أذكر أننا كنا في المدرسة عندما سمعنا الخبر، انتظرنا بفارغ الصبر العودة إلى منازلنا لنشاهد عبر التلفزيون ما جرى هناك في السماء البعيدة. كان الناس مندهشين، وكانت للخبر أصداء المعجزة، ولكن سرعان ما انطوى الحدث مثل أية حوادث أخرى، وغرقنا بعدها في الأرض ولم نعد ننظر إلى السماء. عندما أستعيد هذه الذكرى اليوم أنتبه إلى الأعوام الأربعين الكثيرة التي مرَّت، والتي لم يبق منها إلا أشياء قليلة لا تتجاوز لحظات وذكريات سريعة.