بنبرة خافتة، هادئة مسكونة بالوجع، يمضي الشاعر السوري نزيه أبو عفش في ديوانه الجديد «ذاكرة العناصر» الصادر، أخيراً، عن دار المدى (دمشق - 2005)، نحو توثيق الألم، وتبويب الفجيعة محاولاً تجاوز ذاته كشاعر، ليعانق رحابة الحياة بكل صخبها وصفائها، وليرثي الإنسان، في كل زمان ومكان في ظل ما تشهده الأرض من صراعات، وتفجيرات، وحروب، ومجازر، وأمراض فقدت معها عناصر الطبيعة من طير ونبات وحجر ذاكرتها البريئة الصافية حينما كان الألم صافياً نقياً مثلما كان الأمل صادقاً، ومتاحاً. يقول في قصيدة (ما قبل الأسبرين): «فكِّر في الألم./مثلما كان ميكل آنجلو يفكر في عذاب الصخر/فكِّر في أحزان النباتات،/في ما يتأله الطائر/وما تشقاه البذرة/وما يحلمه عرق النبات المقطوع../فكر في العِجْلة البتول، تحت ميزان موتها،/تعصر الهواء بعينيها/وتتوسل حنان أخيها الجزار..». قصائد الديوان الذي يستهله الشاعر بمقطع لفرناندو بيسوا: «أؤمن بالعالم إيماني بأقحوانة» ليكشف عن نزوعه نحو عدالة غائبة، تبحث عن عالم متخيل خال من الشرور، والآثام، وتحاول أن ترسم فضاءً صافياً تتسرب من زواياه أغاني الفرح وأناشيد الجمال، وليس تحقيق ذلك مستحيلاً، فالشاعر لا ينطلق من رؤية رومانسية حالمة، بل يبني هذا العالم الافتراضي من عناصر تحيط بنا ولا نلتفت إليها، هي عناصر بسيطة محسوسة، ومرئية، كالعشب، والزهرة، والغيم، وجدول الماء، وحفيف الشجر، ولون الفصول، وشدو الطائر: «هيا، عيشوا/ذوّبوا الفولاذ بلعاب الورد/واطحنوا حديد الدبابات بأسنان العصافير..»، وهو يدعم هذا التوجه بمقولة لجان كوكتو يدرجها في مستهل الديوان: «أريد أن أُحبَّ كحيوان، وأن أُحَبَّ كشجرة». ليس هذا المنحى الشعري بجديد، بل هو قديم قدم الشعر والفن. شعراء كثر حلموا، وغرقوا في بحر الأماني ثم أدركوا أن آمالهم البسيطة، وأحلامهم المؤجلة على الدوام، تكاد تكون مستحيلة، فاكتفوا بالكلمة المحلقة في عالم من الأثير كما «الأمير الصغير» لسانت اكزوبري، و«النبي» لجبران خليل جبران، ولعل أبو عفش، بدوره، يقر بذلك، بل يتساءل إلى متى يمكن للأرض أن تصمد أمام هذا الخراب: «هذه الأرض المثقلة بميراثها المخيف/من الدم/والغصّات/و......./وحديد المحاربين/و...»، وطالما كانت الحياة كذلك فسيبقى الشاعر يحلم، ويحلم كما يؤكد أبو عفش في قصيدة بعنوان (أبناء أنفسهم): «تحت سقف الحياة، أو على عتبتها، يجلس الشعراء../يذرفون الكلمات.. كمن يذرف صمتاً/ويملحون يأسهم بالدمع./وبالألم يعيدون حياكة حصير الحياة المهترئة../يحلمون؟!../يحلمون أنهم يحلمون». إن من عرف نزيه أبو عفش عن قرب لا بد له وأن يتساءل عن سر تلك المفارقة المتمثلة في أن روح هذا الشاعر تنطوي على سخرية مريرة لاذعة، فهو في حياته اليومية ينظر إلى الحياة بمنظار الكوميديا السوداء التي تفصح عن نفسها بكلمة ساخرة، أو تعليق تهكمي، أو جملة قياسية لكن هذ الفكاهة، وتلك السخرية تتحولان في بنية القصيدة إلى مفردات وجمل منضبطة يشتغل أبو عفش عليها بجهد ومثابرة، فتأتي القصيدة، لتكشف عن روح مسكونة بالألم والتوق إلى الرضا، ولترسم ملامح شاعر هاجسه الأوحد في الحياة هو كيف يكون المرء إنساناً يحس بآلالم الآخرين، فتغدو القصيدة، والحال كذلك، أشبه بمرثية تواسي الحياة والإنسان الهش المقهور. يقول في قصيدة (كتاب حياتنا): «لأننا نحن الذين صنعناه.. وليس (......)،/: كتاب حياتنا الجميل/مليء بأخطاء الطباعة». ورغم هذا الإصرار على كتابة القصيدة، وممارسة الشعر بيد أنه مؤمن بأن الشعر، والفن عموماً، أضعف من أن يغير نواميس الحياة، وطبائع البشر لكنه مؤمن أيضاً بأن الحياة لا تستقيم، رغم فوضاها، دون الشعر، لذلك يمضي في تدوين هذا السر، محتفظاً لنفسه بفلسفة خاصة في فهم الشعر، ودور الشاعر، إذ يقول، بنبرة من تصالح مع الأوجاع: «كتابة الشعر ندم دائم، وتوبة مستحيلة». في ديوانه هذا يشيد أبو عفش بمداد الحيرة ولوعة الحنين عالماً سحرياً، يعيد تكوين هذا العالم المليء بالخطايا، يرفعه نحو سماوات الألق والبهجة مستهدياً بطبائع الخيال إذ يستثمرها إلى أقصاها، حالماً بحياة خالية من الذنوب والخطايا كما في قصيدة «إعادة تكوين» التي يتخيل فيها إعادة تكوين الإنسان من الأعشاب، من أناقة الشجر، من التماعة الحصى في النهر، من لعاب الطائر الحكيم، من توسل الوردة، من حيرة المغلوب، ومن سخاء دم النبات الغالي وغيرها من العناصر المنسية والمهملة في دنيا النزعات الاستهلاكية الطاغية، ليدلل الشاعر من خلال هذا الشغف بمخلوقات الطبيعة، والاحتفاء ببراءة الحياة، على موقف رافض للحضارة الحديثة وشرورها، واعتبارها سبيلاً إلى اغتيال إنسانية الإنسان ومشاعره الفطرية وأحاسيسه السامية التي اعتادت كل ما هو رديء وبشع وسهل وآني. ومن جانب آخر يمكن القول بأن هذه الإحالات الكثيرة إلى عالم الطبيعة العذراء، ليست سوى محاولة. من الشاعر، للتمرد على ماضيه الشعري البعيد المثقل بالأيديولوجيا والشعارات السياسية، فهو في قصائد ديوانه الجديد يستبدل - كما يشير د. عابد إسماعيل - «التقريرية بشفوية دافئة، تعتمد البساطة اللغوية، والسطر الشعري المفتوح على التلقائية، عبر إبراز التناقض، وسبر أغوار الذاكرة المنسية للعناصر، حيث السرد الشعري المتكئ على نثرات حكايته، ذات بنى أسطورية أو سحرية، كما في قصيدة (الغيمة التي كانت البيت) التي تستحضر عالماً رعوياً صافياً، يقوم على استثمار طاقة الأخيولة، ورسم مناخات مدهشة، غير مألوفة. وهذا يضفي نبرة ملحمية على قصائد الشاعر، حيث العودة إلى الينابيع الأولى للتكوين، وإيقاظ الموسيقى الدفينة لذاكرة الأشياء». وبقليل من المجازفة يمكن القول بأن الشاعر في قصائد هذا الديوان يهجر ذلك الجو الكابوسي المظلم الذي طغى على دواوينه السابقة حتى في عناوينها من قبيل «إنجيل الأعمى»، «أهل التابوت»، «بين هلاكين».. لينتج، هنا، نصاً مغايراً يدعو إلى الحلم والرقص والمشاكسة والعناق والعبث.. ويطالب بتأمل الجمال الغافي في جنبات الطبيعة.. وكل ذلك عبر نثر سهل، سلس ورشيق يتراقص في حقول الحياة، ومن خلال لغة شاردة كالغزلان في وهاد الحب، وكان أبو عفش قد سلم من الخراب الذي ملأ هذا العالم ووسم قصيدته لعقود طويلة، فراح يبحث عن معادل موضوعي للأماني المؤجلة، والخيبات الكثيرة عبر استحضار قصيدة زاخرة بمفردات الفرح، والتفاؤل، والجمال وغيرها من المفردات التي تفتقر إليها الحياة ذاتها، فلا تجد الشاعر الملاذ سوى في قصيدة بيضاء، تشبه حياة غائبة ومشتهاة.