لقد كان ذلك الحدث «نهاية عصر للبعض، وبداية تاريخ للبعض الآخر». إن كنت لم تعر التفاتاً في السابق إلا للجزء الثاني من الحدث، فإن هذا الفيلم سيعيدك إلى المسار الصحيح. ثمة أفلام لا تخرج منها كما دخلت، وثمة وقائع فاتتك أو أهملت تذكرها أو اتخذت منها موقفاً مسبقاً، ولكن حين يدفعك فيلم وثائقي لإدراكها أو لإعادة النظر فيها والبحث من جديد، فأقل ما يقال إنه فيلم قام بدوره التعريفي. وحين تبقى متسمراً أكثر من ساعتين من دون كلل أمام هذا الفيلم، فأقل ما يقال إنه قام بدوره الفني. وحين تلحظ أنه وقف على مسافة «ضرورية» من الوقائع فأنك لا بد تحيّي موضوعيته. إنه الفيلم الوثائقي «1962 من الجزائر الفرنسية إلى الجزائر الجزائرية» من إخراج ماري كولونا ومالك بن اسماعيل. عرض الشريط بمناسبة الاحتفال بالعيد الخمسين لاستقلال الجزائر ضمن برنامج من العروض السينمائية نظمه معهد العالم العربي بالاشتراك مع جمعية مغرب الافلام وفرانس تلفزيون والوكالة الجزائرية للاشعاع الثقافي. وتحت عنوان «الجزائر في صور»، عرضت في المعهد من 22 إلى 25 حزيران (يونيو) ثمانية افلام عن فترة الاستعمار وحرب الجزائر، ثلاثة روائية وخمسة وثائقية. بعضها من الإنتاج السينمائي الجزائري في فترة الستينات وحتى الثمانينات، وأخرى إنتاج مشترك حديث مع فرانس تلفزيون. شهادات فريدة ومؤثرة في عام 1962 كانت الجزائر «أرضاً فرنسية» منذ قرن ونصف قرن، إنها آخر سنة للاستعمار بعد سبع سنوات من حرب تحرير الجزائر التي حصدت مليوناً ونصف مليون. المخرجان اللذان ولدا في الجزائر المستقلة، يستعيدان تلك الفترة التي تفصل بين وقف إطلاق النار في 19-3-1962 والانتخابات الأولى للمجلس الوطني الجزائري في نهاية ايلول. في مقاربة حساسة للموضوع من البداية وحتى النهاية، نتعرف على حياة أُخذت في دوامة التاريخ، وعلى قصص عبّرت عن كثافة تلك الفترة وعن نهاية عصر لبعضهم وبداية تاريخ للبناء للبعض الآخر. لقد ذهب المخرجان للقاء فرنسيي الجزائر (جماعة الأقدام السوداء) واستمعا الى الجزائريين الذين تعاملوا مع المستعمر (الحركيون)، وقابلا شهادات أولئك مع آراء جزائريي الجزائر، فكان عرضاً مدهشاً لهؤلاء الذين شهدوا العنف، الخوف، والأمل... ثم خيباته، ولوجهات نظر متعددة أمام حدث واحد. في الجزء الأول من الفيلم» عليكم أنتم الآن صنع السلام»، الذي اعتمد على صور الارشيف وشهادات معاصرين، تبدو «منظمة الجيش السري» الفرنسية المسلحة التي ظهرت في الجزائر في مارس 1961 تحت شعار «الجزائر فرنسية وستبقى»، وقد صممت على جعل فترة وقف إطلاق النار التي أعلنها ديغول من أسوأ ما يمكن معلنة أنها ستقتل من يرحل من الفرنسيين. لقد ارتكبت عمليات قتل بحق أبرياء وأحرقت المنشآت العامة، لكن وكما يحصل دائماً بدأ الانتقام وانتشر الخطف «من الجهتين» ولم يعد ثمة «أبرياء» في ذلك الوقت. كانت فترة مضطربة افتُقد فيها الأمان ورأى الأبناء آباءهم يُقتلون أمام ناظرهم. يبدي الفيلم المواقف المتناقضة من المنظمة فبعضهم اعتقد انها كانت «الملجأ الأخير» لمن كان يفضل البقاء والعيش في الجزائر. وآخرون يرون بعد مراجعة للتاريخ، أن «كل الحق عليهم، لقد خربوا الاوضاع» إذ لم يعد من الممكن بعدها العيش سوياً. كما تطرق إلى الهوة التي كانت بين اتفاق ايفيان لوقف النار وبين الواقع وما سببه ذلك من مواقف ملتبسة للجيش الفرنسي وبخاصة منها قمع التظاهرة الأولى لسكان حي باب الواد، معقل الأقدام السوداء، استناداً إلى مبدأ «نقمع التظاهرات بشدة ولن تكون ثمة أخرى بعدها»، ولقد ربحوا الرهان!. فأسابيع بعد الإعلان عن وقف النار سمحت المنظمة برحيل النساء والأطفال ثم استمر الرحيل وفي نهاية حزيران كان 350 الفاً قد تركوا الجزائر. استحالة عيش ما... ومقابل وجهات نظر جزائرية في رحيل الفرنسيين والأوربيين «لم يكن ممكناً لهؤلاء العيش في جزائر مستقلة...»، يعرض الفيلم مشاعر أولئك الذين اعتبروا الجزائر «بلدهم الذي ولدوا فيه»، لقد عبر بعضهم بالغضب وآخرون بالدموع عن لحظات الرحيل، «اللحظة الاكثر تعاسة في حياتي»، وعن تساؤلاتهم «ولماذا أرحل؟ هنا ولدت... كنا في بلدنا وكانت لدينا مزارعنا...». ولكن جاء اليوم الذي كان على الجميع المغادرة وترك كل شيء وراءهم. كان يوم الاستقلال تعيساً لهم، بيد أنه كان أحلى يوم في حياة الجزائريين. لكن في ذلك اليوم لم تكن هناك أفراح النصر فقط! لقد كان يوماً دموياً قتل فيه فرنسيون وحركيون ورميت جثثهم في البحيرة، وساد جو من الرعب لم يوقفه إلا خروج متأخر للجيش الفرنسي من ثكناته بعد سقوط مئات الجرحى والقتلى من الجهتين. لكنه كان ايضاً، اليوم الذي ترك فيه «الحركيون» بخاصة، هذا الجرح العميق في التاريخ الجزائري - الفرنسي بخاصة، لمصيرهم. لقد تخلى الجميع عنهم وقالها وزير بصراحة: «لا أريد أن اعرف شيئاً عنهم»، وذاقوا مرارة الاغتصاب والإهانة ولم يكن أمامهم سوى الرحيل أو التجمع في الثكنات أو القتل. في الفيلم مواقف متضاربة من هؤلاء الذين يعتبرهم كثر من الجزائريين «خونة»، وهذا على رغم اعتراف كثيرين بأن «بعضهم اضطر أن يكون حركياً»، وأن قسماً منهم عمل مع الفرنسيين من أجل لقمة العيش فقط «لم تكن لدي ايديولوجية... كنت أعمل من اجل عائلتي، هذا كل شيء» كما قال أحدهم. يستعيد الجزء الثاني من الفيلم «وكأنه حلم...» يوم الاستقلال (3 يوليو) وأسئلته «كيف يمكن التنظيم بسرعة والانتقال من بلد الى آخر بعد رحيل هؤلاء؟». ويستعين بمقاطع من الاذاعة الفرنسية آنذاك، وقصاصات الجرائد وصور الارشيف ليسلط الضوء على أفراح ذلك اليوم، ولكن أيضاً...أحزانه. «كان يوماً كالحلم وكانت صيحات «الجزائر حرة، الجزائر مسلمة» و «الجزائر جزائرية»... كانت الفرحة عارمة، لقد كان يوم العودة إلى النفس، فالمستعمر قد غيب «تاريخنا وثقافتنا». أما أقوى رمز لهذا اليوم فجاء على لسان راهب فرنسي: «لقد ألبسوا تمثال جان دارك العباءة والحجاب وغطوه بالعلم الجزائري كان هذا هو الاستقلال! لقد شعرت حينها بنفسي أجنبياً». آخرون من الفرنسيين الذين احتفظوا بالأمل في البقاء حتى اللحظة الأخيرة، شهدوا هذا اليوم بالدموع والغضب «كنا كصراصير محبوسين في بيوتنا»، وشعر بعضهم بالحقد على الجنرال ديغول وتساءل: «لماذا ليس لدي الحق في أن أكون جزائرياً؟»، لم يكن كثر يعتبرون انفسهم مستعمرين» لم أكن مستعمراً، كنت عاملاً وكنا في بلدنا... لقد طردنا من بلدنا» ويقول آخر: «كنت أظن أنهم سيقرأون على جبهتي أنني فرنسي جيد! لكنهم لم يفعلوا»!... تتتابع الشهادات التي تعبر عن آلام هؤلاء وحرقتهم ومرارتهم. ثم تطرق السيناريو إلى فترة ما بعد الاستقلال الصعبة وكشف بعض خبايا الاقتتال الجزائري-الجزائري في آب (أغسطس) 62 وخيبة من «هؤلاء القادة الذين لا يستأهلون ثقة الشعب». وألقى الضوء على أول «انقلاب جزائري بشرعية السلاح والديموقراطية على الطريقة الجزائرية» حين استقال الرئيس بن خدة ودخل أحمد بن بلة العاصمة في مصفحات بومدين وانتخب رئيساً... ما فتئت هذه الحرب تثير إلى اليوم، مناقشات وجدالات وما زالت جروحها مفتوحة، وعانى مخرجا الفيلم في التصوير الذي كان «صعباً ومعقداً وألغي مرات». وقالت المخرجة في لقائها مع الجمهور إنها وزميلها وضعا مشاعرهما في «خزانة» واكتفيا بنقل مشاعر هؤلاء الذين عاشوا الأحداث، لكن بن اسماعيل رد معترضاً: «لدينا مشاعرنا بخصوص هذه الحرب، إنه جرح مفتوح يجب غلقه» واضعاً مسؤولية هذا الدور على «الفنانين والمثقفين»، فالسياسيون والمؤرخون لهم أدوار أخرى على ما يبدو، وربما كانوا لا يقدرون». لم يوفر الفيلم أحداً، ولم يهتم بالحساسيات وبالأقوال اللائقة سياسياً وبأنصاف الحقائق، بل ترك حرية الحديث عن الأحداث والوقائع لكل هؤلاء الذين عايشوها، واستمع إلى معاناة وجروح و... أفراح كل الأطراف. وهنا نقطة قوة هذا الوثائقي وعمق الأثر الذي يتركه في النفوس. وربما يسمح الاشتغال على الذاكرة بقلب هذه الصفحة المأسوية في تاريخ البلدين، وبأخذ الدروس والعبر من قبل بلاد أخرى تصنع شعوبها التاريخ في الوقت الحاضر.