يتشدق الكثيرون بالمخاوف المتزايدة مما يسمى المد الشيعي ومصدره إيران بالدرجة الأولى، وفي ظني أن التسمية الدقيقة يجب أن تكون هي المخاوف القومية من الدولة الفارسية، وقضية إيران الأولى في ظني ليست الإسلام على رغم ما هو ظاهر في هذا السياق، إلا أنها في الحقيقة قضية قومية في المقام الأول ولذلك فإن الذين يكتبون عن إيران بعد قراءة فاحصة لتاريخ الحضارة الإسلامية هناك سوف يجدون أن المؤثرات الفارسية لم تبرح العقل الإيراني ولا تزال لها الغلبة حتى اليوم، ولعلي أظن - وأرجو ألا أكون مخطئاً - أن إيران تتصرف وفقاً لما نسميه الأجندة القومية الفارسية فهي ليست أجندة دينية خالصة كما يتوهم الكثيرون، ويكفي أن نأخذ مثالاً واحداً وهو الاختلاف في التسمية للخليج «العربي» في إحدى ضفتيه و «الفارسي» في الأخرى وكيف يتمسك الإيرانيون بالتسمية الفارسية وتراجعهم عمّا وعد به الإمام الخميني من تسميته «الخليج الإسلامي» ترضية للجانبين ولكن أشقاءنا الإيرانيين تأخذهم العزة بالإثم ولا يرون إلا تلك الشوفينية القومية التي يمضون وراءها، وأنا هنا أريد أن أميز تمييزاً دقيقاً بين إيران كدولة إسلامية لا غبار عليها وبين الدوافع القومية والنوازع الفارسية التي تظهر في كثير من قراراتها الإقليمية وسياساتها الدولية متمسكة بمظلة إسلامية ذات بريق خاص يشد إليها من لا يدرك أولوية القومية على الدين في العقلية الفارسية عبر التاريخ، ولعلي أبسط هنا ما أوجزناه من خلال الأفكار الآتية: أولاً: ما زالت الذاكرة العربية بل والإقليمية عموماً تحتفظ بيوميات الحرب العراقية الإيرانية والدور الباسل الذي قام به الشيعة العراقيون في الدفاع عن بلدهم العربي على رغم أنهم كانوا تحت مظلة نظام ديكتاتوري يخوض حرباً غير مبررة، ولكن ارتباط الشيعي العربي بأمته أقوى بكثير من أي رابط آخر فعلى الجانب الآخر من الخليج نجد الدولة الإيرانية تقوم بعملية تعبئة إقليمية تستخدم فيها كافة الأسلحة السياسية والثقافية والنفسية، بل وتغلفها بإطار ديني عندما تبدو وكأنها المدافع الأول عن الشيعة في العالم وتحاول من خلال ذلك أن تمارس تأثيرها في دول الجوار بل وفيما هو أبعد من ذلك من دول عربية وإسلامية، وهو ما يثير القلق ويدعو إلى التساؤل، ولعل جزءاً كبيراً من أزمة العلاقات العربية الإيرانية يبدو نابعاً من الفهم المتعمد من جانب إيران وتنظيمات مختلفة في المنطقة من منطلق قومي بالدرجة الأولى يستخدم الدين غطاءً له. ثانياً: يجب أن نعلم جميعاً في العالم العربي أن الشيعة العرب هم أقدم من اعتنق المذهب الشيعي في العالم منذ واقعة «التحكيم»، فهم الذين تشيعوا لعلي وذريته وليسوا هم من اتبعوا المذهب في إيران مع الشاه إسماعيل الصفوي في مواجهة العثمانيين الأتراك السنّة، فالتاريخ يؤكد أن المذهب الشيعي ولد عربياً وعاش عربياً، ومحاولة الدولة الفارسية الارتباط به والتحدث باسمه هي عملية سياسية بالدرجة الأولى وليست تعبيراً عن حقيقة دينية أو تاريخية، وهذا يعزز وجهة نظرنا في أن إيران توظف الدين في خدمة القومية. ثالثاً: إن السياسة الإيرانية في منطقة الخليج تشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى تطلعات مكتومة ورغبة في السيطرة على المنطقة بدءاً من احتلالها الجزر الثلاث التابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة وصولاً إلى دورها في أحداث البحرين خلال السنوات الأخيرة، وكذلك دعمها لبعض التوجهات في دول الخليج، ولا يعني ذلك إلا تأكيد واحد هو أن إيران تطبق أجندة واسعة لا يحدها الامتداد الإسلامي حولها ولكن تدفعها عوامل التاريخ الفارسي في مراحله المختلفة. إننا أمام دولة إقليمية كبرى اختارت أحياناً الصدام بدلاً من التواصل بينما كان في وسعها أن تكون إضافة إيجابية للمنطقة في كل المراحل. رابعاً: اتخذت إيران منذ الثورة الإسلامية في شباط (فبراير) 1979 موقفاً حدياً من الصراع العربي الإسرائيلي وبادرت إلى اتخاذ خطوات قوية في هذا الاتجاه، ولا شك في أن الدوافع الإسلامية تلعب دوراً في ذلك ولكن المخاطر الناجمة عن الوجود الإسرائيلي العدواني في المنطقة تقف هي الأخرى دافعاً لمخاوف إيرانية من سياسات إسرائيل في المنطقة، فالموقف الإيراني محكوم في جوهره بالتضامن مع الشعب الفلسطيني ونصرة شعب إسلامي أمام خطر يتهدده ولكن القومية الفارسية أيضاً - وهي جزء من إقليم الشرق الأوسط - تخشى مخاطر الدولة العبرية وجرائمها المتكررة التي تتعمد النيل من القوى الهامة في الشرق الأوسط. من هنا فإن الموقف الإيراني في الصراع العربي الإسرائيلي ينبع أيضاً من مصالح مباشرة ومخاوف موجودة في الدولة الفارسية، ومما يؤكد ما نذهب إليه هو أن الدولة التركية التي ارتبطت بعلاقات استراتيجية بعيدة مع إسرائيل قد تحولت في السنوات الأخيرة إلى درجة من الحذر والقلق والرفض لسياسات إسرائيل من منطلق قومي تركي أيضاً. خامساً: إننا إذا تأملنا الوفود الإيرانية في المؤتمرات الإقليمية والدولية فسوف نجد أن لديها درجة عالية من الاعتزاز بالشخصية الفارسية والاحتفاء بها، ويكفي أن نتذكر هنا حرص الإيرانيين على احتفالاتهم بأعياد غير إسلامية ك «النوروز» مثلاً ولا بأس من ذلك إذا كان في إطار الدولة الفارسية، ولكنهم حرصوا مؤخراً على إقامة الاحتفالات في عواصم خارجية كنوع من الدعاية وتأكيد الذات والحرص على فرض الهوية، ونحن لسنا ضد التمسك بالقومية لأمة معينة ولكننا نرفض توظيف الدين كساتر خارجي لأهداف لا تتصل به، فاستخدام الدين كغطاء للقومية أمر برعت فيه السياسة الخارجية لعدة دول في السنوات الأخيرة وقد اكتشف الكثيرون صحة ما ذهبنا إليه. سادساً: إن نظرة العرب للفرس لا يحكمها عداء تاريخي ولا خلاف عقائدي إنما تحكمها طبيعة الجوار عبر القرون، وما زلت أتذكر أنني دعيت عام 1989 لإلقاء المحاضرة الافتتاحية لنادي «الجسرة» في الدوحة وحضرها لفيف كبير من المثقفين بدعوة من الأستاذ يوسف درويش ولقد قلت يومها وبوضوح كامل أن العلاقات العربية الإيرانية يجب أن تكون إضافة إيجابية لرصيد المنطقة وليست خصماً سلبياً منها، وكان ذلك في أعقاب حرب ضروس بين العراق وإيران امتدت لأكثر من ثماني سنوات، فنحن العرب ليس لدينا وطر تجاه أشقائنا الفرس ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في السياسات والأساليب التي مارستها طهران في بعض المراحل. سابعاً: إننا لا ننكر أن الديبلوماسية الإيرانية قد حققت بعض النجاحات في العقود الأخيرة ولكنها صنعت في مقابل ذلك مخاوف بغير حدود لا على الجانب العربي وحده ولكن على امتداد الإقليم كله، وعلى رغم أن الولاياتالمتحدة الأميركية قد قدمت لإيران خدمات جليلة في السنوات الأخيرة سواء بإسقاط نظام صدام حسين في بغداد أو إسقاط حكم «طالبان» في كابول، إلا أن الإيرانيين واصلوا دورهم بغير تراجع معلنين العداء للولايات المتحدة في وقت تتردد فيه إشاعات عن اتصالات تحتية بين طهران وكافة القوى الأخرى، ولا يزال الموقف الإيراني غير قادر على زرع الثقة مع الدول المجاورة وإحداث نقلة نوعية في العلاقات معها، فلا تزال المخاوف تتزايد والحديث عن الأطماع والمخططات - سواء كانت صحيحة أو مبالغاً فيها - تدور في أروقة الديبلوماسيين وخبراء العلاقات الدولية داخل المنطقة وخارجها. هذه جولة سريعة في ملف شائك يتصل بالعلاقة بين إيران والعالم الخارجي وأفضلية القومية أو الدين في مسار السياسة الخارجية على رغم كافة العقبات والتحديات التي تواجه مسار تلك السياسة. يكفي أن نقول أن الدين متجذر في الشرق الأوسط - مهبط الرسالات وملتقى الأنبياء - إلا أن العوامل القومية لا تزال تطفو على السطح خصوصاً لدى بعض الدول التي قبلت الإسلام ديناً ورفضت العروبة ثقافة والتي يعتبر النموذج الإيراني أبرز الأمثلة عليها. ولا شك في أن وقوع إيران جغرافياً في غرب آسيا وفي جنوبروسيا غير بعيدة عن الهند وباكستان وأفغانستان قد جعلها دولة محورية ذات أهمية استراتيجية خاصة ولكنها تفضل على ذلك كله أن تكون «شرطي الخليج» مثلما كان الشاه قبل خلعه، فالعمق الفارسي موجود دائماً قبل وبعد العامل الديني الذي لا نتجاوزه مؤكدين أن السياسة الخارجية الإيرانية هي سبيكة من عنصرين أحدهما الدين والآخر القومية ولكن الروح الفارسية الراسخة هي التي تغلف كل شيء في النهاية. * كاتب مصري