«مبروك للأسف!» لعلها المرة الأولى التي يتم تبادل التهاني فيها بين الناس مصحوبة بكلمات تعبر عن الأسى والألم والأسف. لكن هذا هو ما حدث عقب فوز مرشح حزب «الحرية والعدالة» الدكتور محمد مرسي برئاسة مصر. صحيح أن ميدان التحرير المزدحم بشباب يمثلون في الغالبية المطلقة منهم تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها شباب الإخوان المسلمين، تعمه الفرحة العارمة. إلا أن بقية الشباب من غير المنتمين إلى تلك التيارات يحكمها أسف مشوب بالأسى حتى بين أولئك الذين صوتوا لمرسي. وإذا كان جانب كبير من الأصوات التي حصدها مرسي في جولة الإعادة يعود الفضل فيها إلى القدرة الفائقة لجماعة «الإخوان المسلمين» على الحشد، إضافة إلى أصوات أنصار التيار الإسلامي في شكل عام ممن سيميلون حتماً إلى أي مرشح يلوح بكارت «تطبيق شرع الله»، فإن جانباً آخر لا يستهان به ممن صوتوا لمرسي هم من الممسكين بتلابيب الثورة التي يعتقد البعض أنها بدأت تعاني سكرات الموت، ويشكل الشباب بين هذه الفئة الأخيرة نسبة لا يستهان بها. بدموع غائرة في عينيه وحزن كامن في صوته قال أحمد نديم (26 عاماً): «كنت في ميدان التحرير طيلة أيام الثورة ال18، وبعدها عدت إلى عملي، ثم رجعت إلى الميدان في أزمات عدة من «محمد محمود» إلى «مجلس الوزراء» إلى «ماسبيرو» وغيرها. كنت هناك من أجل بناء مصر دولة ليبرالية حديثة على أسس العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. لم يجل بخاطري يوماً أن ينتهي بي الحال مساهماً بوضع لبنة في بناء دولة دينية من خلال التصويت لدولة مرشد الإخوان. لكني فعلت ذلك للمساهمة في إسقاط شفيق». ويبدو أن من سقط فعلياً هم شباب الميدان الأصليون وليس الوافدون! ربما سقطوا سهواً، أو عمداً مع سبق الإصرار والترصد. الرصد الأيديولوجي لمحتوى الميدان الثوري طيلة أيام الثورة، وفي أثناء فاعلياته والكوارث التي وقعت في الشوارع والمؤسسات المحيطة ومليونياته (باستثناء مليونيات «قندهار» الخاصة بالإسلام السياسي) يؤكد أن من يحويهم حالياً من محتفلين بفوز الدكتور محمد مرسي برئاسة مصر لا يمتون بصلة للمحتوى الأصلي. سلمى ولبنى وفرح ثلاث صديقات في أوائل العشرينات. يفخرن بأنهن كن جزءاً من الميدان في كانون الثاني (يناير) 2011. يقلن في صوت واحد: «حين غامرنا بحياتنا ونزلنا إلى الميدان، فعلنا ذلك من أجل مصر المنتفضة على الظلم والفساد الواقع على الجميع. فعلناه من أجل الفقراء الذين يزيدون فقراً، ومن أجل الممارسات الظالمة من الشرطة، وفعلناه من أجل وقف مشروع توريث الحكم من فاسد إلى أكثر فساداً». تقول لبنى: «لم يخطر ببالي للحظة أننا بلد فاجر، أو أننا شعب فاسق وأنني أثور اعتراضاً على الكفر والإلحاد. لكن، حين أنظر إلى الميدان شكلاً وموضوعاً أشعر وكأن ثورتنا كانت من أجل نشر الإسلام، وهي لم تكن كذلك لأن الإسلام منتشر، والشعب متدين، والجميع مسلمين ومسيحيين يعانون ظلماً واحداً ليس لأنهم كفار أو ملحدون، لكن لأن حكامهم ظلموا وفسدوا وقهروا». ولدى سؤالهن عما إذا كن ينزلن إلى الميدان حالياً، جاء الرد بلا تردد: «لا طبعاً! معركة الميدان الحالية ليس معركتنا، وأجواؤه ليست أجواءنا، كما أنه تم تفريغه تماماً من عنصره الأنثوي». وتضيف سلمي أنها تخشى «مجرد الاقتراب من محيط الميدان بعد ما تحول ميداناً إقصائياً قسم المصريين إلى فريقين، أحدهما بتاع ربنا لا يعترف باختلاط المتظاهرين والمتظاهرات، بل يفصل بينهما خوفاً من الفتنة والشهوات، وآخر فيه ثوار الميدان الأصليون». وعلى رغم ذلك، فإن الميدان يحوي قلة عددية وفكرية لشباب ينتمون إلى حركات وائتلافات ثورية يطالبون بإلغاء الإعلان الدستوري المكمل وكذلك إلغاء حكم المحكمة الدستورية العليا ببطلان مجلس الشعب (البرلمان) المصري. إلا أن وجودهم رمزي ولا يؤثر من قريب أو بعيد في هوية الميدان ذات اللحية. لحية الميدان التي هي صورة بالغة التعبير عن المولود الذي أنجبته الثورة وهو «مصر الإخوانية» تسبب في اختفاء شبه كامل لشباب الثورة. وعلى رغم وجود آثار بسيطة لهم تظهر بين الحين والآخر على هيئة متحدث باسم ائتلاف «كذا» على شاشة تلفزيون، أو مقابلة جمعت فلانة الثورية بالرئيس المنتخب، أو ما شابه، إلا أن الغالبية العظمى منهم عادت أدراجها إما إلى شاشات الكومبيوتر محتمية بأجوائها الليبرالية المنفتحة من شمس الدولة الدينية، أو إلى مقاهيه ونواديه وتجمعاته، أو إلى عمله ودراسته انتظاراً لغد أفضل. وفي أثناء الانتظار تعتري أولئك مشاعر متناقضة تتراوح بين الإحباط الشديد والتفاؤل البسيط. وعموماً، فإن النصيحة المتداولة بين البعض منهم هي «ردد بينك وبين نفسك، لم أساهم في فوز مرسي ودولة الإخوان بمقدار ما أسقطت شفيق ودولة مبارك»! مبروك للأسف!