في شتاء عام 2012 الفائق القسوة، ظهرت ألمانيا بوصفها بلداً معتمداً على المصادر الأشد تقليدية في الطاقة. إذ لم تملك لمجابهة موجة غير مألوفة من الثلوج والجليد والصقيع، سوى زيادة عمل موّلداتها، خصوصاً تلك التي تعتمد على الفحم الحجري، ما جعل نصيبها في التلوّث شديد الارتفاع. ولم يخفف من حدّة هذه الصورة، «ولع» ألمانيا بطاقة الشمس، التي تراهن عليها بقوة عبر مشاريع محلية لا حصر لها، إضافة الى توليها مسؤولية أساسية في دعم مشروع «ديزرتيك» Desertec العملاق لنقل طاقة الشمس من الدول العربية في شمال أفريقيا إلى ألمانيا ومجموعة من دول أوروبا. مثال أميركي محيّر في المقابل، ربما من الإنصاف القول ان ألمانيا تراهن بقوة على مجموعة من مصادر الطاقات المتجددة Renewable Energies في المستقبل المنظور، وتربطها مع الآراء التي تتحدث عن احتمال أن تتجه مصادر الطاقة التقليدية الى النضوب. وتشمل تلك المصادر الشمس والرياح والطاقة المنبعثة من جوف الأرض «الجيو حرارية» Geothermal؛ إضافة الى «الطاقة الحيوية» التي تسمى أيضاً «الكتلة الحيوية» («بيوماس» Bio Mass). وتأتي الطاقة الحيوية من الوقود المستخرج من أنواع النباتات (مثل الذرة وقصب السكر والشمندر السكري والرز والقش والكولزا وغيرها) والفضلات النباتية والحيوانية أو حتى «البيوغاز» المأخوذ من المطامر الكبرى. ويعتبر ذلك «انقلاباً» في المعادلة السائدة راهناً بين الطاقة والزراعة. فمن المعلوم أن الوسائل الحديثة في الزراعة يجعلها تستخدم الكثير من الطاقة. وبصورة عامة، زاد استهلاك الزراعة لموارد الطاقة 50 مرّة مقارنة بالزراعة التقليديّة، وفي الحالات القصوى أي في حالة الزراعة الشديدة التصنيع والتركيز والمكننة، تضاعف استهلاك الطاقة 100 مرّة. في الولايات المتّحدة، مثلاً، يتطلّب توفير الغذاء لكلّ مواطن أميركي كمية من الطاقة تعادل ما تحتويه 730 كيلوغراماً من النفط في السنة. وتُطلق تسمية «مُعادل النفط» على هذه المُعادلة. وبحسب إحصاءات منظّمة «فيرتلايزر»، استهلك الأميركيّون من 30 حزيران (يونيو) 2001 إلى 30 حزيران 2002 أكثر من 12 مليون طنّ من الأسمدة الآزوتية، ما يساوي 15,3 مليار ليتر من الديزل، (96,2 مليون برميل نفط). وعام 1990 استهلك المواطن الأميركي 1000 ليتر (6,4 برميل) من النفط في الهكتار المُعدّ للزراعة. وتظهر أهمية استخراج الطاقة من منتجات الزراعة من أشياء كثيرة منها أن الاعتماد على الشمس والرياح فيشكل دائم تقف دونه صعوبات جمة. فعلى سبيل المثال، لا تتوافر الرياح والشمس على مدار السنة، ولا تصل بالمستوى الفعّال الى أماكن تتطلبها. ولذا، فإن الطاقة الحيوية يمكنها أن تلعب دور المكّمل للأنواع الأخرى من الطاقة. وفي إطار استغلال مصادر الطاقة الحيوية يلعب القش الناتج عن المحاصيل دوراً كبيراً. التجربة الألمانية: القشّ وجوف الأرض في ألمانيا «تعتمد كثير من محطات توليد الطاقة على القشّّ الذي يعتبر من مخلفات محاصيل مثل الرز والقمح والشعير»، وفق البروفيسور ديتر شتاينبريشت، مدير «معهد الطاقة والبيئة» في جامعة «روستوك» الألمانية، في أحاديث أدلى بها الى وسائل الإعلام في بلده أخيراً. في المقابل، ثمة مشكلة في حرق القش، تتمثّل في توليد كمية كبيرة من الرماد ومادة «الأكالين»، وكلاهما يُحدِث مشاكل في التجهيزات الهندسية. «ومن أجل ذلك تُطوّر حالياً طرق لحرق القش تمنع تشكيل الرماد» وفق شتاينبريشت. توجد طريقتان لإحراق القش. تعتمد الأولى على عملية «تغويز»، أي حرق الغاز الناتج عنه. وتتمثل الثانية في حرقه بواسطة «السرير المُميع»؛ حيث تتراوح الحرارة بين 750– 800 درجة مئوية. وينتج من احتراق القشّ غاز ثاني أكسيد الكربون. وهناك أساليب لعزله وعدم نفثه في الهواء، كي لا يلوث البيئة. وللتخلص من ذلك الغاز، من المستطاع ضغطه وتخزينه في مستودعات تحت الأرض. في المقابل، أوضح شتاينبريشت أن من الممكن «ضخّ ثاني أوكسيد الكربون تحت ضغط عالي الى مياه البحر، شرط أن تكون عميقة ومنخفضة الحرارة، لضمان بقاء الماء المنحل في تلك الأعماق. وكذلك ينطوي تخزين ذلك الغاز في باطن الأرض على مخاطر مثل التسبّب بحدوث هزات أرضية بفعل الطاقة التي ربما انطلقت من التفاعل بين الغاز وبعض المكوّنات حوله... حتى الآن لا نعرف تأثير هذا الغاز في جدران المخازن الموجود تحت سطح الأرض». وفي سياق متصل، تحدث شتاينبريشت عن «الغاز الحيوي» («بيوغاز» Bio Gas) الذي يستخرج من المطامر من طريق أعمدة مثقبة تُضرب في مطامر تضم كميات كبيرة من النباتات، لتسحب هذا الغاز. وأشار إلى وجود مشكلة في ألمانيا بالنسبة الى الاعتماد على المواد الغذائية (مثل القمح والرز) في إنتاج البيوغاز، لافتاً الى «أن هذا الاعتماد يسبب أزمة في توافرها ويخلق تنافساً بين مولدي الطاقة ومنتجيها، وفي أحسن الأحوال سينعكس ذلك ارتفاعاً في أسعار الأغذية». وتوجد في هذه الأعمدة فلاتر من أجل التنقية. غير ان مع مرور الوقت يتراجع إنتاج الغاز من المطمر، ويتراجع معه تركيز مادة «الميثان» الذي يستخدم الانتاج الطاقة. و«عندما يصل هذا التراجع إلى حد معين لا تعمل المحركات لكونها تحتاج إلى نسبة معينة من الميثان». كما يمكن استغلال درجات الحرارة العالية ضمن باطن الأرض لاستخراج الطاقة. فمثلاً، توجد في شمال ألمانيا ظروف جيولوجية معينة تناسب إنتاج الطاقة في هذا المجال حيث تتوافر درجات حرارة مرتفعة في أعماق الأرض، ما يتيح إمكان إنتاج التيار الكهربائي. وتذكّر التجربة الألمانية بمشروع إقليمي للطاقة، يتميّز بالجدّة والطموح، من المحتمل أن يغطى جيبوتي وأريتريا وإثيوبيا وكينيا وتنزانيا وأوغندا. وعلى رغم وجود فوارق كثيرة بين هذه البلدان، إلا أنها جميعها جزء من الأخدود الأفريقي العظيم، ما يعطيها إمكانية هائلة لاستخراج الطاقة الحرارية من جوف الأرض. وتعتمد هذه الدول حاليّاً على الديزل والقوى الهيدروليكية في توليد الطاقة. تتمثّل النقطة الرئيسة للمشروع المقترح في إنشاء «صندوق تخفيف آثار المخاطرة»، الذي قد يساهم جزئيّاً في الحدّ من آثار المخاطرة التي قد تتعرض لها موارد استكشاف الطاقة الحرارية الجيولوجية وتقويمها. وتقدر كلفة المشروع الأولية ب 77 مليون دولار، ويمول جزء منها بمنحة من «صندوق بيئة الكوكب» قيمتها 35 مليون دولار، ويأتي الباقي من مانحين أو مستثمرين آخرين من القطاع الخاص مثل «بنك كيه إف دبليو» وأيسلندا وإيطاليا والولاياتالمتحدة. فحقيقة الأمر أن المشروع هو بمثابة مختبر حقيقي للطاقة بالنسبة اى المستثمرين الذين يشترطون أن يبقى كل الملف التقني في أيدي القطاع الخاص والمصارف المُمَوّلة، بمعنى انه لن يكون بإمكان الأفارقة الاستقلال بقرار إنتاج هذه الطاقة، ولا بتحديد أسعارها في المستقبل. تتضمن المرحلة الأولى من المشروع خلق شبكة إقليمية لإدارة جهاز معلومات لحرارة باطن الأرض، مع بناء قاعدة بيانات عن طاقة جوف الأرض. وسيشرف عليها «برنامج التنمية» في الأممالمتحدة بمشاركة شركات استثمارية. وتتعلق المرحلة الثانية بتقليل الآثار الجانبية للمخاطر الجيولوجية، وهو جانب تقني أيضاً؛ ومن أهدافه ترسيخ «طاقة باطن الأرض» كاختيار إستراتيجي في توسيع خطط الطاقة بالنسبة الى الشركات والدول. ويشرف «البنك الدولي» على تلك المرحلة، وقد أعلن أنه يمنح أولوية لاستثمار القطاع الخاص وليس للبلدان المعنية.