بكت عضو اللجنة المنسقة للمؤتمر الدولي لأدب الأطفال «قصتنا قصة» الكاتبة والاكاديمية نازك سابا يارد، في ختام الدورة الأولى في العام 2009، شاكرة كل الذين ساهموا في إنجاح المؤتمر الذي استقطب عدداً كبيراً من المهتمين لم يكن متوقعاً. فاللقاء كان الأول من نوعه في المنطقة، وفتح النقاشات على مصراعيها للغوص في مجال طالما افتقر الى الدعم وعومل كموضوع ثانوي. بكت الأكاديمية والخبيرة التربوية لفرحتها بنجاح المؤتمر، ودمعتها تلك التي أثّرت في الحاضرين وَشَت بنوع من التفاؤل والايمان الشخصي بترسيخ شبكة واسعة من الرسامين والكتاب والباحثين لتطوير أدب الأطفال والارتقاء به في المنطقة. هذه الدمعة أكدت اليوم مع اختتام الدورة الثانية للمؤتمر الذي ينظمه «تجمع الباحثات اللبنانيات» بعنوان «السياسة في أدب الأطفال» والتي أهديت الى نازك سابا يارد التي تغيّبت عن جلساته جراء وعكة صحية، أن افعال الكتابة والبحث والتطوير في أدب الأطفال هي افعال ومواقف سياسية وثورية صريحة. فعالم الأطفال الغني والواسع والمتشعّب والمعقّد، يحتاج الى إيمان نابع من الداخل وموقف شخصي كي يغوص فيه المهتم أو المتخصص أو الكاتب أو الرسام، وهو يتطلب جهداً إضافياً ودقة وبحثاً من دون مردود مادي كبير. وهذا الموقف السياسي حضّنا المؤتمر الذي نظّمته الأكاديمية المتخصصة في أدب الطفل فاديا حطيط والكاتبة والناشرة رانيا الزغير بالتعاون مع يارد في كلية الفنون – الجامعة اللبنانية (جنوببيروت)، على التفكير به وطرح اسئلة حوله، وهو سيحرّك وفق المؤتمرين خيال - ومسؤولية - العاملين في هذا القطاع الذي بدأ يتطوّر منذ عقد تقريباً في المنطقة العربية. الواقع بمعايير فنية؟ كيف نثقف الطفل ونعرفه على حقوقه وحقوق الآخرين، فيما نحن لا نطرح له في قصصه موضوعات مثل العدالة والوطن الآمن؟ كيف يتكون لدى الطفل رأيه الخاص وتوجهاته وقيمه ومواقفه السياسية؟ هل علينا أن نؤدلج الطفل من خلال القصص التي من المفترض أن تكون فسحة تسلية ومرح؟ وفي ظل تغلغل الإعلام والتغطيات المباشرة للأحداث والحروب التي يتعرض لها الطفل يومياً، أليس من الأفضل أن نخرج الطفل من خلال القصص الى عالم زهري أو الى عالم السلام والاطمئنان؟ كيف سيعرف الحقيقة، وكيف يأخذ موقفاً عندما يكبر من قضية لا يعرف تفاصيلها ولا خلفيتها؟ هل نحكي له قصص الواقع والحرب والعنف والنزاعات كما هي في شكل مباشر؟ بأي لغة نخبره تاريخه وانتصارات شعبه وهزائمه واحترام القانون والديموقراطية وتفشي الفساد والابتعاد عن الطائفية وتقبل الآخر واحترام المسنّ ونصرة الحق؟ ماذا عن السياسة الأسرية والاقتصادية في البيت، وعلاقة الطفل بالسلطة والمجتمع؟ طغت هذه الأسئلة على جلسات المؤتمر الستّ، على مدى يومين، وأجمع معظم المتحدثين من كتاب ورسامين وباحثين من فلسطين وإيران ومصر وسورية والأردن والنروج والسويد والكويت ولبنان والمكسيك والبرازيل وبريطانيا، على ضرورة الانطلاق من اهتمامات الطفل وتساؤلاته وبيئته وإخباره الحقيقة والواقع بأسلوب قصصي أدبي يراعي المعايير الفنية والأدبية التي تحترم عقل الطفل وتطلعاته وتفكيره. فالقصة على ما خلص إليه المؤتمرون، ليست بياناً سياسياً ولا خطاباً أيديولوجياً موجّهاً، يقولب عقل الطفل وينمّطه واضعاً إياه في صندوق حديد مقفل، داعين الى تفادي الإسقاطات والمفاهيم العامة والتلقين، واللجوء الى استخدام مفاهيم بسيطة من خلال لغة سهلة نابعة من عالم الأطفال ويومياتهم. ورأت ليلي يازدي أحد الوجوه الأدبية البارزة في ايران والمستشارة الثقافية لعدد كبير من المشاريع الثقافية والفنية، أن الحياة ليست سهلة كما تصوّرها بعض قصص الاطفال. ورفضت رفضاً قاطعاً إخبار الاطفال قصص الحرب والقتلى والجرحى في شكل موجّه، معتبرة أن هناك أساليب كثيرة لإخبار الحقيقة بطرق غير مباشرة ورمزية مثل قصص السوري زكريا تامر وبيتر سيس وغيرهما. وبالنسبة اليها يمثل أدب الأطفال تغيير المجتمعات، لذا «علينا أن نعلمهم مبادئ الديموقراطية وحقوق الانسان والتسامح والسلام، من خلال قصص فنية ومسلية غير موجهة، عن الحرب والصراعات وعن التاريخ كي نفتّح عيونهم وعقولهم وكي يواجهوا المصاعب والتحديات ويتخذوا قراراتهم». أما الفنانة والحكواتية والباحثة في أدب الأطفال الفلسطينية دنيز أسعد، فتطرقت الى نوع جديد من «الاستعمار» إذ تخضع إنتاجات أدب الأطفال وبرامجها لأجندات وسياسات أجنبية بحجة التسامح والسلام، مبعدة أولادنا عن القضية الحقيقية. ودنيز التي ترى أن كتب الأطفال بعيدة من الفن والتنوع وحب الوطن والانتماء، تؤكد أن تبدّل السياسات العامة والصراعات وتحوّلها منذ اتفاق أوسلو، انعكس على السياسة في أدب الأطفال وصارت القضية الفلسطينية ومعاناة أهلها مع القصف والحواجز والعنصرية، شبه غائبة. إصغوا الى الطفل وفي كيفية «صناعة الرأي والتوجهات في كتب الأطفال»، اعتبر القاص السويدي أولف نيلسون أن أدب الأطفال ليس تربوياً بل هو فعل نابع من أحاسيس الكاتب والرسام وعقله وجروحه، ودعا العاملين في هذا الحقل الى «الإصغاء للأطفال بدقة لأنهم أذكياء ويعرفون كثيراً عن عالمنا». وأعطى لمحة عن القصص التي يكتبها وتلقى رواجاً في بلاده وبلدان أخرى ترجمت الى لغاتها. هناك سؤال يطرح دائماً كلما تحدثنا عن علاقة الطفل بقصصه أو اختياره كتاباً ما، لماذا تجذب الرسوم أطفالنا في حين يُهملون النصوص ويهربون منها؟ ولكن يبدو أن الجواب جاءنا في هذا المؤتمر من خلال مداخلات الرسامين الثلاثة جنى طرابلسي وحسان زهر الدين ودافيد حبشي، المميزة والعفوية والواقعية التي تحكي لغة الطفل المعاصر وتسمعنا صوته، على رغم غياب صوت الطفل عن المؤتمر وعدم تخصيص جلسة أو مداخلة تعطينا نظرة عن رأيه بما ينشر له. فالمداخلات الثلاث الحيّة أكدت أن المؤلفات الصادرة حديثاً في العالم العربي اجتازت شوطاً كبيراً على المستوى الفني (الطباعة والشكل والإخراج والرسوم) في حين لم تتطور النصوص كما يجب. وأكدت طرابلسي أن خيار الرسام خيار سياسي لكونه اللاعب بالمرايا في قصص الأطفال، إذ إن تماهي الطفل بما يراه في المرآة يعكس نفسه وما يراه في المجتمع. وعرضت لتأثرها وهي صغيرة برسوم كتب الاطفال مثل تلك التي كانت تصدرها «دار الفتى العربي» وخصوصاً «البيت» لزكريا تامر، وكيف أعادت إنتاج هذه الثقافة والموروث الفني من خلال رسومها الواقعية والسياسية التي تتناول أحلام الاطفال وهواجسهم وقضايا العدالة الاجتماعية ومناصرة المظلوم وتحرير فلسطين، بلغة فنية طفولية بسيطة. أما الرسام والمصمم الغرافيكي اللبناني المقيم في كندا حسان زهر الدين، وكان من بين المرشحين على اللائحة القصيرة في معرض بولونيا للرسامين في 2009 و2011، فانتقد صورة الذات والبيت والعائلة النمطية والبعيدة عن الواقع في كتب الاطفال العربية التي «تسفّه الهموم والقضايا الانسانية بحيث تغيب صورة الفقير والآخر أو تُطرح في شكل كاريكاتوري». وتساءل زهر الدين: «هل صناعة الكتاب هي صناعة رأي أم تسويق؟ ما هي الضوابط التي تتحكم بهذا الانتاج؟ ما هو ثمن نشر أي كتاب؟ ما هي الفئة التي يتوجه إليها هذا الكتاب؟ بعد إرضاء الدول المانحة والممولة، ما هي الاثمان التي تدفعها دور النشر؟ ماذا سيحلّ بالكتاب الذي يفرض التنميط وبرامج السلطات العليا والدول المانحة والممولين؟ هل نتواطأ نحن الكتاب والرسامين مع دور نشر تتواطأ بدورها مع سلطات عليا وأجندات دول كبرى، ونبتعد عن الطفل الفقير وقضايا المجتمع وعن الحقيقة؟ لكن هذه الأسئلة لم تلق جواباً وافياً، في ظل عدم توافر الدراسات الميدانية والأبحاث عموماً في بلداننا وفي المؤتمر أيضاً، إذ غاب صوت الطفل ورد فعله مع ما يصدر من كتب وقصص في أدب الأطفال ومدى تأثره بها. لنتخلّص من قبضة الترجمة على رغم غرقهم في الحدث السياسي الإعلامي اليومي والدامي، لا يزال الأطفال في العالم العربي بعيدين من مواطنيتهم ولا يعرفون الخلفيات التاريخية لأوطانهم وقضاياهم خصوصاً المتمحورة حول الصراع العربي-الاسرائيلي. وهنا تكمن المشكلة، وفق رئيس تحرير مجلة «الآداب» والناشط السياسي في مجال مقاطعة اسرائيل، الكاتب اللبناني سماح إدريس الذي له 13 كتاباً للأطفال والأحداث. في مداخلته العلمية والغنية المتميزة، حول المواطنة في كتب الأطفال، شدّد إدريس على أن الكتابة بالعربية الفصحى البسيطة هي تأكيد موقف سياسي في القصص التي بدأ يكتبها انطلاقاً من تجربة شخصية مع ابنتيه اللتين تكرهان القراءة باللغة العربية نظراً الى صعوبتها. وأشار الى أن أدب الأطفال «يشهد صعوبات كثيرة خصوصاً عندما يستخدم الأدباء لغة خشبية لبسط عضلاتهم مستمدين دعمهم من البرامج والأجندات الأجنبية المموّلة، بحيث يقع معظم الانتاج في قبضة نخبة مزعومة تترجم مجمل أعمالها عن كتب أجنبية غريبة عن طفلنا». وشدّد على تخليص الأدب العربي من هذه القبضة التي تعبّر للأطفال عن عالم صعب وبعيد وغريب عن عالمهم، ما يؤدي الى حالة اغتراب واستلاب واعتراب (استلاب أكبر) للأطفال. وانتقد ادريس معالجة القضايا العامة في كتب الأطفال إذ تأتي وعظية، لأن الكاتب أسير نص سابق ولا يبذل ما بذله روائيون عرب كبار. وانتقد ادريس الصورة الطوباوية للأم والأمير والملك في كتب التربية وقصص الأطفال التي «تحضر فيها السياسة بقوة وبلا حياء لمصلحة صورة وهمية وردية لكل شيء من العائلة الى الوطن». وأكد أن المواطنة ليست موقفاً عقلياً مجرّداً بل تطبيق ونتيجة عمل على الأرض، داعياً الى العمل الجدي والفني النابع من واقع الطفل والبحث والنقد في مجال أدب الأطفال، لأن «الأدب عندما يُكتب لمجرّد التحدي يفشل، ويبتعد عن الفن والجمالية».