في البداية قد ينغلق عليك اسم الممثل الذي يلعب الدور الرئيس في فيلم «الصيد» للدانمركي توماس فنتربرغ، لكنك في الوقت نفسه ستتذكر ان وجهه ليس غريباً عليك... كذلك الحال بالنسبة الى موضوع الفيلم، حيث إن الأمر لن يستغرقك طويلاً قبل ان تقول لنفسك إنك شاهدت هذا الموضوع على الشاشة من قبل، وتحديداً في أكثر من فيلم دانمركي... بل أكثر من هذا، في فيلم سابق للمخرج نفسه... في الفيلم الذي صنع له شهرته العالمية قبل 14 سنة في دورة العام 1998 من مهرجان «كان» -الذي عرض فيه «الصيد» هذا العام ضمن إطار المسابقة الرسمية-، ونعني بذلك فيلم «الاحتفال» الذي كان ولا يزال يعتبر إحدى التحف اللافتة في الإنتاجات القليلة لتيار «دوغما 95»، فالموضوع الأساس في الفيلمين واحد: اغتصاب الطفولة جنسياً من قبل البالغين، وهو ما سنعود اليه بعد قليل، اي بعد ان نشير الى ان متفرج «الصيد» سرعان ما سيكتشف ان بطل الفيلم الدانمركي مادس ميكليسن (والذي فاز بجائزة افضل ممثل في هذه الدورة من «كان» عن دوره هذا في «الصيد»)، انما هو خصم جيمس بوند في فيلم «كازينو رويال». في ذلك الفيلم كان شريراً، اما في «الصيد»، فإن الأمور أكثر تعقيداً من ان تسمح بمثل هذا الحكم على شخصيته. وهنا بالطبع قوة الفيلم. لولا الرصاصة الأخيرة في الحقيقة، كانت الأمور ستبدو اكثر بساطة وخطّية، لو ان مخرجه وكاتب السيناريو لم يُنهياه على لقطة ستبدو في نهاية الأمر شديدة الغموض الى درجة انها ستحمل من المعاني المفترضة ما ينسف سياق الفيلم ككل، بل اكثر من هذا: ينسف كل ما قاله المخرج على هامش عرض الفيلم، من انه اراد فيه ان يصور قوة الإشاعة وتأثر المجتمع بها «من خلال حكاية تكذّّب النظرة القائلة عادة بأن الأطفال لا يكذبون». وحتى لو جازفنا هنا بالوصول الى نهاية الفيلم قبل الحديث عنه، لا بد من اشارة الى مشهد النهاية هذا: حيث بعد ان تصطلح الأمور وتظهر «براءة» بطل الفيلم من التهمة «الظالمة» التي توجهها اليه طفلة الخامسة، والمتعلقة بمحاولته العبث الجنسيّ بها، وخلال رحلة صيد غزلان اقيمت لتتويج المصالحة والبراءة، ثمة طلقة رصاص تحاول ان تصيب من البطل مقتلاً... ويتلو الطلقة التي ينجو منها بطلنا مشهد مغبّش يوحي الينا بأن من أطلق الرصاص إنما هو ابن الرجل نفسه والذي كان طوال الفيلم اكثر الأشخاص إيماناً ببراءة أبيه مقاتلاً ظلم المجتمع له. ترى ما الذي اراد الفيلم ان يقوله عبر تلك المحاولة؟ ما هي رسالة تلك الطلقة؟ هما في الحقيقة سؤالان من المدهش أن كل ما كتب عن الفيلم لم يتطرق اليهما... ومهما يكن من الأمر هنا، سنفضّل بدورنا ان نتركهما معلّقين في عهدة القارئ ريثما يشاهد هو الفيلم بنفسه ويستخلص ما يشاء. اما هنا، فنعود الى الفيلم قبل ان تختلط الأمور اكثر بفعل استطرادات مبكرة اخرى! صيد من لمن؟ يحمل الفيلم عنوان «الصيد»... والعنوان يوحي من ناحية مبدئية بهواية الصيد التي يمارسها في قرية دانمركية ريفية هادئة مجموعة من رفاق ذوي عائلات يعيشون يومياتهم وسط مناخات من الود والرفاقية، بيد اننا سنكتشف بعد قليل ان تلك المناخات انما هي اقنعة توافقية لا اكثر، كما اننا سوف نكتشف ان عنوان الفيلم نفسه لا يحيل الى هواية صيد الغزلان – مع ان الفيلم يبدأ بمشاهدها وينتهي بها– بقدر ما يحيل الى صيد آخر، هو المطاردة المدهشة القاسية والظالمة التي يقوم بها اولئك الرفاق ضد صديقهم لوكاس (ميكليسن نفسه)، حين يحكم عليه المجتمع قبل البوليس والقضاء، بناء على اتهام طفلة في الخامسة له. وفجأة، يصبح الرجل عدو المجتمع وطريدته، وحتى من دون ان يسأل أحد نفسَه عما اذا لم تكن الطفلة كاذبة. «الأطفال لا يكذبون» هذا ما يقرره المجتمع. وحتى حين تريد الطفلة ان تصحح « خطأها» بتكذيب ما كان سبق لها ان صاغته من اتهام لأستاذها في حديقة الأطفال هذا... لن يصدقها هذه المرة أحد. وحتى لن تصدقها امها، وبخاصة لن يصدقها ابوها الذي كان في الأصل صديق طفولة لوكاس. لن يصدقوها هذه المرة على رغم تمسكهم بشعار «الأطفال لايكذبون»! واضح ان فنتربرغ اراد من خلال هذا «التفصيل» هنا، ان يتوقف عند قوة الإشاعة وعند تفاهة المجتمع الضيق، الذي يفضّل دائماً ألاّ يطرح أي اسئلة على نفسه... وربما نجد المخرج في هذه النقطة بالذات، يحاول ان يعدّل ميزاناً كان نصبه للمفتري على الطفولة في فيلمه السابق «الاحتفال»، حيث اغتصاب الطفولة كان فعلاً حقيقياً سيعاقب عليه فاعله بعد سنوات طويلة. اما هنا، في «الصيد»، ووفق المجرى الرئيس لمنطق الفيلم، متضافراً مع تصريحات المخرج بعد عرضه وقبله، فإن التهمة ظالمة، والمجتمع هو الشرير، فالفيلم يقدم لنا لوكاس منذ البداية رجلاً طيباً يعيش ازمة عمل وطلاق واحتمال ان يُفصل عن ابنه المراهق. لكنه مع هذا، ذاتَ لحظة، سيرى بصيص نور من خلال وظيفة يحظى بها في حديقة الأطفال المجاورة، كما من خلال امرأة اجنبية عاملة في المدرسة يرتبط بها. كل شيء حتى الآن يشي بأن امور لوكاس ستسوّى، غير ان ما لم يكن في الحسبان، كان جارته الطفلة كلارا، التي اذ يرفض الاستجابة لمحاولتها العثور على عطف منه تجاهها يفوق المنطقي، تخبر هذه مديرة المدرسة بما يفيد ان لوكاس اراد استغلالها جنسياً. ومنذ تلك اللحظة يحدث الانقلاب وتبدأ حفلة الصيد ضد لوكاس... وبالتدريج يتخلى عنه الجميع، مصدقين انه حقاً فعل ذلك. وحده ابنه المراهق، الى جانب الصَّدِيق عرّاب هذا الابن، يدافعان عنه، وهو بدوره لن يوفّر جهوداً للدفاع عن نفسه مستخدماً العنف أحياناً، بعد ان طرد من عمله وراح الكل يضطهدونه، وأخبرت المديرة زوجته وابنه بالأمر، ما يعرضّه حتى لخسارة إمكانية ان يعيش الابن معه... غير ان هذا كله سيبقى –ولو الى حين– أضعف من ان يعدّل الميزان امام قوة الإشاعة. غموض ... مفتعل؟ وحدها الشرطة اذ تحقق في الأمور لاحقاً، سوف توصل لوكاس الى بر الأمان. وهذا ما سوف يعيد اليه اعتباره، ويعيده الى أحضان المجتمع... بعد ان يكون الفيلم، في انتظار هذه العودة، صوّر تهافت هذا المجتمع وخضوعه لسطوة فعل الإشاعة القاتل. نعم، انطلاقاً من هنا، تبدو النهاية سعيدة من دون شك... ولكن يبقى سؤال: اذا كانت الأمور كذلك، وإذا كان تحقيق البوليس أعاد المجتمع الى صوابه، من اين اتت الرصاصة الأخيرة؟ ومن أطلقها؟ ولماذا؟ اننا نعيد طرح هذا السؤال هنا فقط، لأن غموض المشهد ودوافع هذا الغموض تأتي لتجعل للفيلم نهاية مفتوحة قد لا يكون من الضروري اعتبارها، هنا بالذات، شيئاً سلبياً. ومع هذا، لا بد من القول إنها أضفت على الفيلم غموضاً بدا مفتعلاً، ما قلل من قوة عمل سينمائي هُلّل له كثيراً، قبل عرضه وبعده، بوصفه العمل الذي عاد به فنتربرغ الى تعبيره السينمائي القوي الذي كان قد لفت الأنظار في «الاحتفال» قبل ان يحقق المخرج، وغالباً خارج بلده الدانمرك، عدداً من الأفلام (من بينها الأميركيان «الحب هو المسألة الأساس» 2003، و «عزيزي وندي» 2005) التي لم تعطه ولو ربع المكانة التي كان «الاحتفال» وفرها له.