يتعسر ميلاد «الربيع العربي» في سورية الى درجة تكاد تزهق روح الأم الباسلة، بينما الحواضن التونسية والمصرية واليمنية تتفاوت في قدرتها على رعاية مولود خديج. أما في السودان فالحاجة الى انطلاق ربيعي تتخذ سمتاً إنقاذياً للوجود المجرد للوطن نفسه بالحفاظ على ما تبقي منه موحداً، بعد انفصال ربعه الجنوبي سكاناً وثلثه مساحة منذ تموز (يوليو) 2011. ففي دارفور ومنطقتي جنوب كردفان وجنوب النيل الازرق المتاخمة للجنوب، يكاد المدخل الديموقراطي المجرب في أكثر من مكان كترياق وحيد لظاهرة التهميش، يخسر المعركة ضد المدخل - المخرج (الجنوبي) الانفصالي. فإزاء نظام الاستبداد الديني المتمكن منذ ربع قرن تقريباً والعاجز بطبيعته عن إنتاج الثروة ناهيك عن توزيعها عدلاً، والمستنزف رصيد المعارضة الديموقراطية بالقمع وتعميق عوامل انحسار الوعي الديموقراطي الموروثة من الشموليات السابقة، تتسامق جاذبية الخيار الجنوبي. وعلى رأس جبل الخراب الوطني المحدق بالسودان- البقية هذا، يقف رئيس الجمهورية المستدام مبشراً/ ناعقاً بأن السودان اضحى عربياً ومسلماً خالصاً، تماماً كما تتمخض دولة البعث العربي السوري، وقبله العراقي، عن مجتمع مفكك طائفياً وقومياً يتهيأ لحرب أهلية. في محاولة لاستدعاء جهد المثقفين الى ساحة إنقاذ الوجود السوداني، بينما يخوض السياسيون صراعات يومية ضد النظام موزعة بين ساحتي السلم والعنف، وجّه ثلاثة منهم دعوة الى ما ينوف عن العشرين شخصية الى «لقاء تفاكري» التأم في مدينة الدوحة خلال 26- 27 أيار (مايو) الماضي مستضافاً من «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» الذي يديره الدكتور عزمي بشارة. الهدف وفق نص الدعوة كان: «تشخيص الأزمة الوطنية وبحث سبل إيجاد حل يلقي الرضا والقبول من كل الاطراف بغية ان يمثل ذلك مخرجاً تاريخياً نحقن به الدماء ونستكمل كسب الاستقلال ونضع به أسساً جديدة للبناء الجماعي للوطن». لم يكن متوقعاً أن يتجاوز هذا اللقاء الاول عتبة الاستكشاف المتبادل للآراء، نظراً للتباين الشديد في آراء المدعوين بين مؤيدين ومعارضين للنظام، والتعقيد الاضافي الناجم عن كون الغالبية لا تتطابق آراؤها كلياً مع الطرف الذي ينتمون اليه، ولكن أيضاً لسبب آخر أكثر بساطة وتعبيراً عن واقع الحال المزري لزمرة المثقفين السودانيين، وهو توزع نسبة كبيرة منهم بين المنافي المتعددة والمتباينة جغرافياً وثقافياً. يبقي بعد ذلك التساؤل حول إمكانية الفصل بين المثقف والسياسي في مجتمع ترسخت فيه تقاليد ازدواجية الدور منذ جيل استقلال عام 56 بسبب قلة عدد المتعلمين وقتها مع الاحساس العارم بالواجب الوطني. بعد أقل من ثلاثة اعوام جاءت سلسلة الانظمة الديكتاتورية العسكرية - المدنية لتعمق هذا التقليد في مناخ مواجهتها ولترسب تدريجاً الاثر الاخطر بما لا يقاس، وهو انتقال عدوى الشمولية من السلطة الى المجتمع إذ تعطلت عوامل تحديث البنية التحتية العقلية. من هنا تعذر إصلاح السياسة وأحزابها وعلاقة المثقفين بها وضعفت قابلية النقد الذاتي، الصفة المميزة للمثقف الحقيقي. مع ذلك، فإن تحسين فرص نجاح أي جولة مقبلة للقاء الدوحة، أو استمراره بأي صيغة أخرى، تقتضي تغليب الثقافي على السياسي قدر الامكان. فمهما صفت النيات وارتفعت درجة الاستعداد للتنازل تحت وطأة الاحساس بالخطر المحدق بهيكل الوجود الوطني نفسه، يبقى التقارب او الاتفاق على الصعيد السياسي (الاقتصاد، العلاقة مع دولة الجنوب، الحريات الخ...) معرّضاً للانهيار لأن أنظمة البعد الواحد متخصصة بطبيعتها في دفع معارضيها نحو التطرف في معارضتها بتطرفها في إقصائهم. وعندما يحضر التطرف تغيب العقلانية. وهذا، بالمناسبة، أمر لا علاقة له بوسائل الصراع السياسي التي قد تصل الى حد استخدام السلاح، ولكن وفق تقديرات مدروسة لمدى توافر شروط تتجاوز كونه اضطرار الحد الاقصى لكسر تصلب الاستبداد ودفعه الى السلمية، إلى كونه يفتح الطريق نحو مجتمع الحرية والعدل الاجتماعي. وهذ معادلة صعبة للغاية في مجتمع اضطرت حتى النخب القائدة فيه إلى طرق الدروب الإثنية والقبلية يأساً من حل وطني. مدار التفاكر على صعيد المثقفين تقارباً او اتفاقاً هو الصلة بين قضايا الصعيد السياسي الضاغطة حالياً والعجز السوداني المزمن العابر للانقسامات الايديولوجية والسياسية في تأسيس ديموقراطية مستدامة. ففي نهاية المطاف ومنطقه لا بد من علاقة ما بين فشل النخبة السودانية يميناً ويساراً ووسطاً في تأسيس نظام ديموقراطي حي ومزدهر والقضايا التي تتفاقم وتتفجر في ظل آخر تجليات نظام هذا الفشل المتسيّد سلطوياً الآن مهما كانت درجة مسؤوليته الاكبر في هذا التفاقم. الافتراض ان التفكير في اهداف لقاء المثقفين، وتنظيمه من حيث نوعية المدعوين وعددهم وبرنامج العمل، على هذا النحو الذي يغلب الثقافي على السياسي من دون الفصل غير الممكن أصلاً بينهما، أنه يفسح مجالاً أوسع في مداولاته وحصيلته النهائية لوزن المشغولين والمشتغلين بما بعد، وقبل، أو ما فوق وتحت، قضية بقاء النظام أو زواله، سواء كانوا معارضين أو مؤيدين. عندها يغدو اللقاء التفاكري بؤرة تفاعل منتج مستقبلياً حتى لو لم يتمخض عنه توافق واضح المعالم لأنه في الحد الادني يوفر عنصراً مفقوداً في الصراعات الحالية وهو استيضاح الجهتين، بتنوعاتهما الداخلية، لوجهة نظر الآخر في عمقها الكلي المختفي وراء غبار السياسة اليومية الكثيف، كما انه يحفزهما على تنشيط الصفة الفارقة للمثقف وهي كونه ناقداً دائماً للذات قبل الآخرين. لا يعني ذلك ان هؤلاء سيكفون عن خوض الصراع السياسي اليومي من مواقعهم المختلفة، ولكنهم سيزرعون فيه بذرة التركيز على المكون او البعد الفكري فيه فيغدو منتجاً في ما يتعلق بقضية القضايا: الديموقراطية القابلة للحياة. * كاتب سوداني