كانت عقارب الساعة تخطت الثالثة من فجر السبت الأول من الشهر الجاري، عندما قالت علا (5 سنوات) لوالدها بسام النيرب (46 سنة): «توكل على الله»، وكررتها أكثر من مرة، بينما نظر إليها باستغراب، ثم أردفت: «إحنا حنموت» (سنموت)، فرد مبتسماً: «لا لن تموتي. إذا كنت قلقة من أجل ال 70 شيكل التي سأشتري لك فيها ملابس الروضة، لا تقلقي سأخذك صباحاً وأشتريها لك». في البيت المجاور، يقيم أنس ابن فتحي أبو عيطة (46 سنة)، وهو ولد شقي يبلغ من العمر خمسة أعوام. سحبه والده من يده وأخذه عنده في الغرفة مع زوجته كي لا «يشاكس» إخوته وأخواته. أما الجار الثالث إبراهيم المنيراوي (54 سنة)، فقال لزوج ابنته إنه سينام في «قاع» الدار (حوش أو ممر صغير يربط باب المنزل بالغرف) بسبب الحر الشديد وارتفاع معدلات الرطوبة الخانقة. وللسبب نفسه دخل جارهم الرابع، عماد الغول (35 سنة)، الحمام ليأخذ «دشاً» بارداً يساعده على النوم. يقطن هؤلاء الجيران في أربعة منازل صغيرة بدائية منخفضة مسقوفة بالأسبستوس في مخيم الشابورة للاجئين وسط مدينة رفح جنوب قطاع غزة، تقوم على مساحة 400 متر مربع. ولم يعرفوا ماذا كانت تخبئ لهم طائرة إسرائيلية، أميركية الصنع، من طراز «أف 16». أسقطت الطائرة صاروخاً واحداً بين منزلي أبو عيطة والنيرب، فحولتهما فوراً إلى ركام، فيما تطايرت جثث الصغار، ودُفن اليافعون والكبار تحت الأنقاض. هرب الغول من حمام منزله عارياً، فتلقفه جاره مصطفى أبو لمظى الذي خرج لإنقاذ جيرانه بعد سماع دوي الانفجار الهائل المروع، وغطى جسده ببطانية. أما المنيراوي، فاستشهد تحت جدار المنزل، فيما نجت بناته السبع وابنه الوحيد لأنهما قررا في اللحظة الأخيرة أن يناموا في بيت جدهم القريب. أما زوج ابنته، فهرب مذعوراً من غرفة النوم إلى الشارع يصرخ، من هول الصدمة، بأعلى صوته، معتقداً أنه مات قبل أن يكتشف أنه لا يزال على قيد الحياة. قذف انفجار الصاروخ أبو عيطة وزوجته عبير (38 سنة) وابنه أنس، وهم على سرير النوم إلى منزل الغول الذي تهدمت بعض جدرانه فوقهم، فأصيب الثلاثة، ومعهم أحمد الغول (6 سنوات)، وشقيقه محمود (سنتان)، ووالدتهم بجروح. كما استشهد أبناء أبو عيطة الثلاثة، إبراهيم (10 سنوات)، وأحمد (7 سنوات)، ومحمد (5 سنوات) التوأم مع أنس، كما أصيبت ابنتاه لينا (15 سنة)، ودنيا (14 سنة) بجروح. عندما سمع عوني إبراهيم (54 سنة) وزوج ابنته علاء صبّاح (25 سنة) دوي الانفجار المخيف، قفزا فوراً وفتحا باب المنزل القريب من منزل أبو عيطة، فوجدا دينا تقف مذعورة وتبكي أمام بين المنزل وتصرخ بهستريا والدماء تنزف من وجهها وتنادي على والديها. وقال إبراهيم ل»الحياة»: «قذف الانفجار بها إلى باب منزلي». أما النيرب (46 سنة)، فأصيب بكسر في ركبته اليمنى وجروح مختلفة، وكذلك زوجته أروى (46 سنة)، وشقيقته سهير، وأيضاً ابناه محمد (27 سنة) وميسرة (23 سنة)، ونجا محمود (25 سنة) وحسين (20 سنة) وأحمد (18 سنة). كما استشهدت بناته ضحى (16 سنة)، وابتسام (13 سنة) وعلا اللتين بحث عنهما الجيران والمسعفون ولم يجدوا لهما أثراً، إلى أن سمع أحدهم صوت أنين طفل صغير، وبعد ساعتين من البحث والتدقيق والتركيز تبين أن الصوت صادر من فوق سطح منزل قريب، فصعدوا، وإذ بعلا ترقد على فرشتها ورأسها ينزف دماً، فنقلوها إلى المستشفى إلى أن فارقت الحياة بعد وصولها بساعتين. لكنهم لم يعثروا على أي أثر لابتسام، فاعتقدوا أن قطع الأشلاء الصغيرة التي وجدوها ربما يكون جزء منها يعود لها، وجزء يعود لأحمد أبو عيطة، فقرر الجاران اقتسام القطع ودفنهما. ومرت خمسة أيام قبل أن يجدوا جثة ابتسام تحت الركام، كما قال والدها ل»الحياة» بينما أبو عيطة ينظر ويستمع بألم وحسرة لأن أجزاء من جسد فلذة كبده دُفنت في قبر آخر. وقال ل»الحياة»: «كنت تحت الركام لا أقوى على الحراك. حاولت الخروج من غير جدوى إلى أن جاء عدد من الجيران وأخرجوني وزوجتي وأنس من منزل جارنا عماد الغول». هكذا تحدثوا بمرارة وحسرة وحزن إلى مراسل «الحياة»، صديقهم وجارهم السابق، لم يبكوا، فربما تكون الدموع جفت ونضبت من مآقيها خلال الأيام السابقة، لكنهم تماسكوا وهم يحكون عن مآسيهم وقصصهم التي تفوق كل خيال وتصور.