كان يتصبب عرقاً من صلعته. ينبش في الركام وتحت الأنقاض بحثاً عن أي شيء يمكن أن يكون نافعاً في أيام النزوح الصعبة هناك بعيداً في مخيم جباليا للاجئين. يشعر كامل داود وهدان (58 عاماً) بحزن على عشرات خلايا النحل المحطمة، وبحزن أكبر على ابن عمه وعائلته الذين استشهدوا في منزلهم نتيجة قصف اسرائيلي غاشم. المنزل المؤلف من أربع طبقات أصبح مثل أربع قطع من البسكويت تم رصها فوق بعضها بعضاً، وبينها 8 جثث لأناس أبرياء، لا ذنب لهم سوى أن حظهم العاثر قذف بهم للسكن قرب جيران قساة لا يعرفون الرحمة. قال مستوطن من «سديروت» على شاشة التلفاز: «يجب محو قطاع غزة عن الوجود كي نتمكن من العيش بأمان». أسلاك شائكة وأخرى إلكترونية مكهربة و900 متر بالتمام والكمال من الأرض الجرداء تفصل بين منازل عائلة وهدان ومستوطنة «سديروت» الصغيرة الأقرب الى بلدة بيت حانون عند الطرف الشمالي الشرقي من قطاع غزة. سكان المستوطنة البالغ عددهم نحو 20 الفاً عادوا الى منازلهم الثلثاء الماضي بعد قليل من سريان تهدئة لثلاثة أيام. يجولون بسيارتهم في الشوارع، فيما عائلة وهدان تلملم جراحها، وسكان بلدة بيت حانون يقفون على أطلال منازلهم المدمرة يبكون شهداءهم وذكرياتهم وأحلامهم التي دُفنت تحت الركام. كانت «البورة» يوماً بساتين حمضيات وفاكهة غنّاء، تفوح منها رائحة زهر الليمون والبرتقال في الربيع، وتتمتع بنسيم من الهواء الخالي من الرطوبة في الصيف، قبل أن «تحلقها» جرافات الاحتلال وتصبح قاحلة. والآن، تفوح منها رائحة الموت، وروائح نتنة ناجمة عن حيوانات متعفنة ومنتفخة قتلتها في الشوارع قذائف الاحتلال. يقف 20 منزلاً صغيراً غير مطلية تضم اكثر من 30 عائلة في مقابل بضع عشرات من منازل المستوطنين الملونة والمسقوفة بالقرميد الأحمر. في ليلة رعب رهيبة، تحولت المنازل الى ركام وتكسرت الخلايا، فجنّ جنون النحل، وطار بعيداً من رائحة الإسمنت المختلطة برائحة البارود. قطعت الدبابات «البورة» مسرعة وهي تطلق حممها الملتهبة، وأسقطت الطائرات الحربية الاسرائيلية الأميركية الصنع حمولتها من القذائف. هرب معظم أبناء عائلة وهدان المعروفة بتربية النحل وإنتاج العسل من منازلهم، لكن عائلة زكي وهدان (69 عاماً) لم تتمكن من الهرب من الموت القادم من السماء، أو من الأرض. بعدما بدأت قوات الاحتلال فجر الثامن عشر من الشهر الماضي بشن العدوان البري، جاء جنود الاحتلال الى المنزل فاعتقلوا نجله حاتم (52 عاما) وأبناءه الأربعة رامي وبهجت ومحمد وزكي، وأبناء عمهم أيمن وأمين. في اليوم التالي، أفرجوا عنهم تباعاً بعدما حققوا معهم عن الأنفاق ومقاتلي «حماس» و «الجهاد الاسلامي»، وعرضوا عليهم التعاون معهم فرفضوا. وقال رامي (31 عاماً) ل «الحياة»: «لم يتمكن أي منا من العودة الى البيت، لكننا اتصلنا بجدي وجدتي وأمي للاطمئنان عليهم». وأضاف: «أجرينا اتصالات مكثفة مع الصليب الأحمر وجمعية الهلال الأحمر والبلديات لإنقاذهم واخراجهم من المنزل من دون جدوى، وكان جواب موظفي اللجنة الدولية دائماً أن قوات الاحتلال ترفض السماح لأي كان بالوصول الى المنطقة وتأمين خروجهم من المنزل». زرع الجنود المتفجرات أسفل المنزل وفجروها، فسقطت الطبقات الأربع، وبينها ثمانية من أفراد العائلة: الجد زكي، والجدة سعاد (67 عاماً)، وزوجة حاتم بغداد (50 عاماً)، وابنتاه زينب (27 عاماً)، وصمود (22 عاماً)، ورضيعتها غِنى (عام ونصف العام)، ونجلاه أحمد (14 عاماً)، وحسين (9 أعوام). إنه «اعدام جماعي» قال رامي الذي يعمل ساعياً في مؤسسة أهلية في مدينة غزة. في هذه الأثناء، كان حاتم وأبناؤه الثلاثة وأشقاؤه وأبناؤهم يأوون في منزل في مخيم جباليا للاجئين يعود الى أحد اقاربهم من عائلة أبو القمصان الذي يعيش خارج الوطن منذ زمن بعيد. اعتقد هؤلاء، بعدما أنهكهم البكاء وجفت الدموع، أنهم الآن في مأمن عن الموت الذي يتربص بالفلسطينيين في كل القطاع وأودى بحياة نحو 1900 منهم، وأصاب نحو عشرة آلاف بجروح. كانوا يعرفون أنه لا يوجد أي مكان آمن في القطاع، لكنهم اعتقدوا، بعد قصف عدد من المدارس التابعة ل «وكالة الأممالمتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين» (اونروا) التي تؤوي نحو 250 ألف نازح، أن منزل نسيبهم قد يكون أكثر أمناً. وما هي إلا أيام، حتى أطلقت طائرة من دون طيار «زنانة» صاروخين على منزل أبو القمصان، فقتلت حاتم، وجميلة (28 عاماً) زوجة ابنه بهجت، وابنتها نور الهدى (أربعة أعوام ونصف العام)، وسنيورة (27 عاماً) زوجة شقيقه علي، فيما أصيب 15 آخرون بجروح، عدد منهم في حال الخطر. تساءل رامي: «ألم يسمع العالم عن هذه الجرائم؟ أينتظرون حتى تقتل اسرائيل كل الشعب الفلسطيني؟». وتابع: «الى متى سيبقون ينظرون الينا وإسرائيل تعدمنا إعداماً مباشراً؟ من سيوقف اسرائيل عند حدّها؟ الى متى سنظل نُقتل، الى متى؟».